كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

ثم ضرب له ذلك المثال الشرود في قوله:
لا تذكر الكتب السوالف عنده … طلع الصباح فأَطْفِئ القنديلا
فإن شوقي أتى في مدائحه وسائر شعره بالأعاجيب وضرب العشرات من الأمثال الشوارد، وأعانه على ذلك معارف عصره وعجائب العلم في عصره، وامتداد التاريخ بخيره وشرّه في ما بين عصر البوصيري وعصره، وتداعي الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على القصاع، فكل ذلك أرهف إحساس شوقي وهاج شاعريته وأثار أشجانه، فهبّ يدافع عن الإسلام ويجهّز من شعره الكتائب لا الكتب.
إن شعر شوقي في الأفق الذي تستقرّ فيه الحكمة مجاورة للبيان، والذي يشارف السدرة التي لا مطمع في الوصول إليها لأحد، ولا يحلق إليها ولو بجناح لبد، فلا يستفيد منه إلا الذي يقرأه بالتدبر والاهتمام وتصفية الذهن، وعند ذلك يعلم أية براعة أوتيها هذا الرجل، وأية قسمة من إشراق الذهن وجبروت العقل رزقها في هذه الحملة التي أعدّه الله لقيادتها في نصرة هذا الدين. وفي أثناء ذلك تجد الغرائب من عرض سماحة الإسلام وخصائصه، وجمعه بين القوة والرحمة، وبنائه على العدل والإحسان وتجاريبه الناجحة في هداية البشر وفي بناء الحضارة وفي إمامة العلم، وفي قيادة العقل، ثم يدسّ في تضاعيف ذلك دعوات عامة إلى التسامح تجري في النفوس جريان الماء، لأنه يعلم أن قومه مغلوبون على أمرهم لا يقدرون على الانتصاف لأنفسهم، فهو يقرعهم على ذلك ويدعوهم إلى الاتحاد ونفض غبار القرون والأخذ بأسباب القوّة، وان لهم في كل مكرمة إمامًا وما عليهم إلا أن يتّحِدُوا، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذه الفنون، يخرج إليها من عمود القصيدة ولو كانت في الرثاء أو في الأغراض البعيدة، حتى قال بعض ناقديه: إن شعره خال من وحدة القصيدة.

أيها الإخوان:
والتديّن أثر الدين في النفس أو ممارسة شعائره بالجوارح وليس من موضوعنا المحدّد البحث عن تديّن شوقي بمعنى إقامته لرسوم الدين وشعائره، لأننا في شغل شاغل عن ذلك بهذا الفيض المدرار الذي يفيض به شعر شوقي في التغالي بالإسلام وتاريخه وأمجاده، وبهذا الإيمان القوي بالله وقضائه، وبهذا التصوير لبدائع مصنوعاته، وبهذا الترديد اللذيذ للقرآن والحضّ على التمّسك به، وبهذا التكرار الحلو للمقدّسات الإسلامية من ملائكة وأنبياء وصحابة وأماكن وأيام، فيغشى في شعره ذكر الله وجبريل ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وعمر وخالد ومكة والمدينة وبدر والقدس، وأسماء كثيرة لبناة المجد الإسلامي والعربي يكرّرها فلا تملّ، ويصفها في أماكنها فلا تختلّ، ويسمها بسيمائها ويصفها بخصائصها،

الصفحة 204