كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

أعيذكم بالله- وأنتم مسلمون، والإسلام عهد وذمة، وعرب، والعروبة وفاء وهمة- أن تركنوا إلى المستفيض عن إخوانكم أنهم شجعان وأنهم صامدون لعدوّهم، وأنهم على قلّتهم ما انفكوا يذيقونه الموت ويجرعونه سكراته، فهذا كله وإن كان حقًا بل دون الحقيقة، لا ينبغي لحازم جاد ممارس لدهره، محنك في معاملات دهره عرف الاستعمار وصلى جحيمه واكتوى بناره، لا ينبغي أن يغتر به أو يدعوه إلى الدعة والتواكل.

أيها الإخوة: لا تنتزعوا من استمرار الثورة أربع سنوات وهي في عنفوان شبابها، وقوّة أسبابها، وتصميم رجالها، وانتظام أعمالها، لا تنتزعوا من هذه الحالة التي يبتهج لها كل مسلم وكل عربي، الدليل من جهة واحدة على شجاعة الشعب الجزائري وقوّة إيمانه واتصاله بربه، وصبره في الزعازع، واستهانته بالشدائد، وإقدامه على الموت في سبيل تحرير وطنه، ولكن انتزعوا- مع ذلك- دليلًا آخر ومن جهة أخرى على أن ثورة أربع سنوات قد تحيفت أمواله التي غذى بها الثورة في سنواتها الأربع، وتحيفت أقواته الضرورية، وعطلت مكاسبه الطبيعية، فالفلاحة- وهي عماد حياته- معطلة، والتجارة معطلة، والموارد الحيوية معطلة، ووسائل الارتزاق كلها معطلة، وما كان يقدمه الجزائريون العاملون بفرنسا للثورة عن طوع واختيار تعطل بتضييق فرنسا على أولئك العمال، وبسجن عشرات الألوف منهم وبمنعهم من الاتصال بالجزائر، حتى يمنع إيصال النفقات إلى أهليهم لتضطر الثورة إلى الإنفاق عليهم، فتثقل التبعية ويدبّ الفشل، وهذه كلها وسائل يركبها الاستعمار لِلْفَتّ في أعضاد المجاهدين، وكلها- ومثلها- واقعة بالفعل وكلها ذات أثر فعّال كلما امتد الزمن في قوّة الثورة.

أيها الإخوة: العاقل من يفكر في العواقب والمصائر ويُعِدُّ لكل حادثة سلاحها، ولكل مفسدة قبل الوقوع صلاحها، والحازم الأريب من يعتبر ما ليس بواقع واقعًا، وبهيئ أسباب دفعه قبل المفاجأة.

أيها الإخوة: إن اخوانكم الجزائريين لو أرادوا وسمحت لهم هممهم وشرفهم ودينهم أن يركبوا مركبًا آخر لا يطوع لساني بذكره؛ ولو سمحت أخلاقهم أن ينكثوا العهد الإلهي الرابط بينكم وبينهم لوجدوا الطريق سهلًا معبدًا ولكانوا أعز الناس في الدنيا، ولحصلوا على الحقوق التي يتمتع بها مرضى الضمائر كاملة غير منقوصة، بل بصورة أكمل، لأنهم أشجع من جميع العناصر التي يتألف منها الهيكل الفرنسي وأقوى عزيمة، وأصلب إرادة، وأمتن طباعًا وأكرم نفسًا ويدًا، ولكن أبى عليهم ذلك ويأبى عليهم أبدًا دينهم وعروبتهم وأبوتهم الذين اعتز بهم الإسلام والعروبة، وكانوا قرّة عين للإسلام والعروبة، فأبت على خلفه الأخلاق الإسلامية والعزة العربية أن يكونوا سخنة عين للإسلام والعروبة، أبت عليهم ذلك أخلاق كريمة وأعراق أصيلة، وصلات بالإسلام وثيقة، فرضوا بالدون، وعيشة الهون، وبما يرضى به كل مغلوب على أمره، كل هذه الحقبة المديدة، ولم يهجس لهم خاطر بقطيعة أصل فضائلهم، ومشرق

الصفحة 232