كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

قتلت الآباء وهم غارون، وإن فرنسا الوحشية لا ترضى بالخزية المفردة حتى تعززها بما هو أخزى، وأما والله لو أن تاريخ فرنسا كتب بأقلام من نور بمداد من عصارة الشمس في لوح منحوت من صفحة القمر، ثم قرظه عشاقها المتيمون منا باللؤلؤ المنثور بدل القرض المشعور، والشعر المنثور، ثم كتب في آخره هذا الفصل المخزي بعنوان "مذابح سطيف وقالمة وخراطة" لطمس هذا الفصل ذلك التاريخ كله، ولجلّله بمثل ما يجلل الأفق من ليلة محاق ظلماؤها معتكرة ونجومها منكدرة، فكيف وفي تاريخها كثير من هذه الفصول السوداء، وأكثرها مرتبط بتاريخ أفريقيا الشمالية، ومع ذلك فإن هذه المخلوقة العجيبة- التي تسمى فرنسا- تدعي الإنسانية، وتتخايل فتدعي أنها خلاصة الإنسانية، وتدعي العلم، وتتعالى فتزعم أنها معلمة العالم، وتتغنى بالحرية، وتتداهى فتملأ ماضغيها فخرًا بأنها أم الحرية ومربيتها وحاضنتها وموزعتها على العالم، وما هي حين نترجمها بأفعالها إلّا زؤان الإنسانية وسقطها، وما هي عند النسابين الأولين وحين تتشامخ الشعوب بأنسابها إلّا العنصر الهجين بين الغال واللاتين، ولا عند الآخرين إلّا خليط الأوزاع والنزاع من الأسبان والطليان والعبران والسودان، وما هي حين تقسم الطبائع والخصائص على الأمم إلّا العدو المبين للعقل والدين والعلم والتمدين، واللص المغير على الحرية والتحرير، وإن لها منها عليها لشواهد، فكم أغارت على حريات الشعوب الضعيفة الآمنة فسلبتها، وعلى آدابهم وعلومهم ودياناتهم فطمستها، وكم هدمت من مساجد يذكر فيها إسم الله، إن في ما وقع منها في الجزائر من حرب الإسلام واللغة العربية صفحات لا تحتاج لمزيد حتى إن حافظ القرآن في قرية يحرم عليه القانون الفرنسي فتح كتّاب لتعليم القرآن إلّا برخصة لا تعطى.

أيها الإخوان:
إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر هو الذي نوع أسباب الثورة عليه، وكل سبب منها يقضي بثورة مجنونة، فكيف بها حين تجتمع؟ فلو أن أهل الجزائر ثاروا كلهم ثورة رجل واحد، وثأروا لقتلى تلك المذابح التي سمعتم إجمالها بقتل أمثالهم من الأوربيين لما بلغوا إلى ما تقرّ به العين من الثأر المنيم، والثأر المنيم عند أجدادكم العرب هو الثأر الذي يجلب النوم المريح إلى العيون التي قرحها السهر في طلب الثأر شهورًا وأعوامًا حتى إذا أدركته نامت وقرت، ومن خصائص أولئك الأجداد التي فقدناها مع الأسف أنهم كانوا لا ينامون على وتر، يعني أنهم يهجرون النوم حتى يأخذوا بثأرهم حمية وأنفة وعلو همة لأن النوم إنما يطيب للخليين الفارغين.
ولو أن الجزائر ثارت كلها ثورة رجل واحد غيرة على ما فعلت فرنسا بدينها وأوقافه ومدارسه ومعابده التي ما زالت تعبث ببقاياها إلى الآن لكانت على حق يقرها عليه كل من له عقل في هذا العالم.

الصفحة 238