كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

ولو أن الجزائر كلها ثارت ثورة جامحة جارفة تخرب العمران وتطمس المعالم وتذهب بكل ما شيدته فرنسا من هياكل الحضارة في الجزائر غيرة على لغتها وقوميتها التي تعمل فرنسا علانية على محوهما ومسخ أهلها لما كانت ملومة ولا موسومة بالوحشية.
كل شيء عاملت به فرنسا إخوانكم العرب المسلمين يدعو إلى الثورة ولو كانت فسادًا في الأرض لأنها ثورة على ما هو أفسد.
ألا لا يقولنّ قائل ولا يهمسن في خاطر امرىء سمع كلامي، العجب من عدم قيام الثورة قبل اليوم، ومن ذهاب أبناء الجزائر للدفاع عن فرنسا حتى يسمع الجواب، أما ذهاب الجزائري للدفاع عن فرنسا فهو فيه مضطر أشبه بِمُخَيَّر، أو مُخَيَّر أشبه بمضطر، ومن البلاء ما يجمع بين المتناقضين في رؤية بصر أو رأي بصيرة، ان سياسة فرنسا منذ أربعة عقود من السنين في قضية التجنيد بالجزائر أنها كلما احتاجت إلى عدد عديد من الجنود الأهالي دبرت بوسائلها الشيطانية مجاعة فظيعة للوطن، فتشتت خيراته التي يكفي محصول سنة منها عشر سنوات فتنقلها إلى وطنها أو تحتكرها وترفع قيمتها إلى ما فوق الطاقة وتقطع أسباب العمل في الداخل وتسد أبوابه في الخارج، فإذا استحكمت المجاعة وأخذت مأخذها في الشعب، واعتراه منها ما يذهل المرضعة عن رضيعها بعثت في القرى والأسواق والسهول والجبال حاشرين بطبولهم ومعازفهم يدعون الناس إلى الجندية ويصورونها لهم كما يصور الواعظ الجنة، ويغرونهم بأجور ما كانوا يحلمون باليسير منها، فيندفع الشبان الجائعون المساكين بالعشرات والمئات إلى التجنيد ليسدّوا أرماق أهليهم بما يبيعون به أنفسهم، وليضمنوا لأنفسهم الخبزة التي تحفظ عليهم الحياة، وفي مثل هذه الحالات من المجاعات المصطلية يندفع المبشرون لاصطياد الأطفال المتضورين جوعًا فيؤوونهم إلى حظائر التنصير، وتجتمع على الأمة المسكينة في كل مجاعة مصيبتان في آن واحد وبسبب واحد وهو التجويع المقصود الذي تصطنعه فرنسا وتحكم أسبابه في وطن يفيض بالأرزاق والخيرات.
ويا ليت الوقت يتسع لتحليل بعض العمليات التي ترتكبها فرنسا لبلوغ غايتها من هذا التجويع، وهي عمليات يحلف الشيطان أنه عاجز عن اختراعها، وهو إمام المخترعين لأمثالها.
وأما النقطة الثانية من مناط العجب، وهي كيف لم تثر الأمة الجزائرية من زمان على الظلم الذي أريناكم لمحات من وصفه، فجوابها عند قرن وربع قرن، سنوات وعقودًا، فهي تشهد أن الجزائر أم الثورة، وأنها قدمت من الضحايا في سبيل استقلالها وحريتها ما لم يقدمه شعب آخر، وأنها لبثت سبعة عشر عامًا في ثورة مسلحة نارية متصلة الأيام والليالي بقيادة الأمير البطل عبد القادر بن محيي الدين المختاري، سجلت فيها من صفحات البطولة والحمية ما شهد به العدو قبل الصديق، وكم أذاقت فرنسا اليَتُوع ممزوجًا بالحرمل لا بَلْ

الصفحة 239