كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

جرعتها السمّ حدوفًا في الخردل، وكم واقفها أبطال الجزائر فدحروها وألزموا جيوشها الجرارة الاحتماء بالسواحل بضع عشرة سنة، وما زالت فرنسا تعرف من كتبها مواقع السيوف الجزائرية في بني أبيها في وقائع "تافنا" و"سيكاك " من ضواحي تلمسان، وما زالت تفهم معنى الغضبة المضرية والحمية المازيغية من تلك المواقع وعشرات أمثالها مما عناه شاعر الجزائر الحديثة محمد العيد في قوله من قصيدة يخاطب بها تلمسان:
"تلمسان" اكشفي عن رائعات … من الآثار جللها الغبار
ضعي عن قرنك الضاحي خمارًا … فقرن الشمس ليس له خمار
ففي هذا الثرى الزاكي قديمًا … لنا ازدهرت حضارات كبار
وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … تفشى العدل وانتشر اليسار
وفي هذا الثرى الزاكي قديمًا … سما "مازيغ" واستعلى "نزار"
عليك تآخيا أدبًا ودينًا … وحولك ضم شملهما الجوار
هما حميا ذمارك بالعوالي … عصورًا فاحتمى بهما الذمار
ولما اجتمع على عبد القادر تدبير الأقدار وتخاذل الأنصار وقعود الجار استسلم، ولكن الجزائر لم تستسلم، وبقيت الثورات مشتعلة في جهات القطر، لم تفقد إلّا صبغتها العامة الشاملة لجهاتها الأربع من حدود "وجدة" إلى مخارم "أوراس" في حدود تونس، وكانت فوهة البركان الثائر قمم جبال "زواوة" التي تشكل ثلث الأطلس الأصغر، إلى أن كانت آخر الثورات القوية المسلحة ثورة الحاج أحمد المقراني التي شملت مقاطعة قسنطينة سنة 1871 في أواخر الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان، وقد شهدها جدي ووالدي وثلاثة من أعمامه، ورابط رجال قبيلتنا شهورًا في سفوح جبل "عياض" ونازلوا عدة طلائع من الجيش الفرنسي فأبادوها في وقعة "قمور" و"بوتمرة" و"الشانية" وفاز بالشهادة عشرات من ذوي قربانا.
وما زالت الثورات المحلية تتعاتب إلى عهد قريب، ففي مقاطعة قسنطينة وحدها يسجل التاريخ ثورة قريبنا الشيخ سعد التباني في جبل "قديشة" احدى قمم الأطلس حيث منازل الأجداد، وثورة العامري، وثورة بوزيان، وثورة الزعاطشة، وثورة بني سليمان، وثورة عموشة، وفي عمالة وهران ثورة بو عمامة وثورة أولاد سيدي الشيخ البكريين بالأبيض وغيرهما، وفي الجزائر ثورة زاغر وثورة العاقلات وغيرهما، حتى ليحسب المؤرخ أن في كل قمة موقعًا لثورة، ولكن تلك الثورات لم تجاوز أخبارها مناطقها المحدودة وغطت عليها صبغة ذلك الوقت وهي الانقطاع التام بين غرب العرب وشرقهم، فلم يعرف عنها شيء ولم ترزق الأقلام المدونة فطاف عليها طائف النسيان حتى عند أحفاد الثائرين وأبنائهم وأنا واحد منهم، ولقد أدركت العجائز لا يؤرخن الزواج والمواليد والوفيات إلّا بتلك الثورات كما كان العرب يفعلون.

الصفحة 240