كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

والحبوب، وتذهب البواخر مشحونة من ميناء وهران والغزوات بالأقوات والخمور والزيوت، ولا تحرك السلطات الفرنسية ساكنًا.
ولقد جمعني القطار في فترة انكسار فرنسا واجتياح الجيوش الألمانية لها بواحد من هؤلاء الفراعنة، وجرني إلى الحديث معه في الحالة الحاضرة إذ ذاك، فسألني رأي عن عواقب انهزام فرنسا أمام الألمان، فقلت ان قوانين الحرب معروفة، فسألني سؤال المستعطف الذي لا يهمه إلّا أمر نفسه: وما يصنع الألمان بنا نحن معشر الأجانب الذين لم ندخل معه في حرب، فقلت له قول الساخر المستهزئ: لعله لا يمسكم بسوء ما دمتم أجانب عن فرنسا، فأجابني وقد لمعت أساريره من الفرح: نحن عند المثل العربي (اللي يتزوج أمنا هو عمنا) وإذا كان الألمان لا ينزعون منا أملاكنا وأراضينا فلا فرق عندنا بين أن تكون الحكومة فرنسية أو ألمانية.
هذا نص كلماته باللهجة العربية العامية وكان يحسنها كأهلها، أما أنا فقد أطرقت حصة من الزمن متعجبًا من حال هؤلاء الأجانب المتفرنسين وهذا مبلغ ولائهم لفرنسا وعواطفهم نحوها، يظهره فرد منهم له في الفَرْنَسَة ثلاثة أو أربعة أجداد، وتقلب هو وأجداده في النعيم قرنًا كاملًا، فلم يحمد لفرنسا نعمة واحدة، ولم يتألم للمحنة التي هي فيها، ولم ينحصر تفكيره في وقت شدتها إلّا في ضيعته ومصلحته الخاصة، وحال هذا المتحدث معي هو حال جميع المعمرين الأجانب المتفرنسين لا يشذ أحد منهم عن هذه الحالة .... وعجبت أكثر من ذلك لخذلان فرنسا في تدليلها لهؤلاء الناكرين للجميل وكيف تقدمهم على أبناء الوطن وتحصي هؤلاء الأجانب الكافرين بها بموت الوطنيين، وطالما هددوها بالانفصال وتشكيل حكومة منهم اعتمادًا على أموالهم الوفيرة، وما حادثة إعلان انفصال العسكريين في الجزائر عن الحكومة الفرنسية وإسقاط الجمهورية الرابعة إلّا برهان واضح على ما تنطوي عليه هذه الطائفة الطاغية لفرنسا المغرورة.
ومن حجّتنا في هذا الباب- باب انطواء هذه الطائفة على إرادة السوء لفرنسا نفسها- ما وقع منذ بداية عهد "ديجول" ( De Gaulle) في إعلانهم الانفصال عن فرنسا وتهديدهم بغزو باريس ووضع الحكومة كلها في السجون، والقادة العسكريون في الجزائر لا ضمائر لهم ولا ذمم، وهم في قبضة هذه الشرذمة من المعمرين، يكيفون عقولهم بالمال، ويسخّرونهم لمصالحهم الخاصة ولو خربت فرنسا، وما زالوا منذ عهد بعيد يلوحون بالانفصال عن فرنسا كلما هُدِّدت مصالحهم، ولو تركت فرنسا في قلوبنا موضع أنملة للرحمة لرحمناها من هذه المهانة التي تلقاها من هذه الطائفة، وكلنا موقنون بأن فناء فرنسا لا يكون إلّا على يد هذه الطائفة المستغلّة التي استغنت على فقر الشعب الجزائري، وإذا أراد الله هلاك دولة جعل ذلك الهلاك على يد من تصطفيهم.

الصفحة 249