كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

إن هذه الثورة أثارت كوامن الأحقاد الدفينة في صدور الفريقين، وكلما امتد عمر الثورة يومًا ازدادت نار الحقد اضطرامًا، فلا يبقى في قلب واحد من المتحاربين مكان للصفاء. فالمعمرون والجيش المسخر لخدمة أغراضهم وفرض أنانيتهم، يمعنون في التنكيل بمن أوقعهم القدر في قبضتهم من المستضعفين، وما ينقمون منهم إلّا أنهم حملوا السلاح في وجه أسيادهم، ورجال المقاومة من المجاهدين ممعنون في التنكيل بالجيش الفرنسي وبجميع أفراد هذه الطائفة وإلحاق الهزائم الفاضحة بهم وتلطيخهم بالعار الذي لا يمحوه الدهر، وعذر المجاهدين في هذا أن هذه الطائفة هي أصل البلايا التي أحاطت بالشعب الجزائري، فكيف يمكن، بل كيف يتصور مع هذا كله أن يتناسى الفريقان أيام القتال وما صاحبها من تقتيل وتعذيب وتشريد للجزائريين، وما وقع فيها من انتهاك لحرمة هؤلاء الفراعنة المتألهين، وتحطيم لمزارعهم، وقضاء على سلطانهم، وخرق لحجاب هيبتهم، وتكدير لمعيشتهم، واغتيال لطائفة كبيرة من أعوانهم الذين كانوا يجرون في أعنتهم، وانه لأمر عظيم عندهم؟
والخلاصة أن الحالة بيننا وبينهم وصلت إلى حدّ لا يمكن معه أن نجتمع تحت سقف واحد ولا أن نعيش في وطن واحد.
...

ليت شعري هل يقيّض الله لثورة الجزائر، بعد خمود نارها، مؤرّخًا من أبناء الجزائر مستنير البصيرة، مسدّد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات، فيؤرخ لهذه الثورة- التي طال أمدها أربع سنوات وهي تطوي الأشهر من السنة الخامسة- تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات كعدد القتلى من المجاهدين وأعدائهم أو مجاوزة ذلك إلى قتلى المستضعفين والنساء والأطفال والعجزة، فكل ذلك من قشور الثورة، والحرب لا عقل لها ولا ضمير، بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية، وإلى العوامل التي تدفع المتقاتلين إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول وأحد الطرفين فيها محقّ يدافع عن حقّه الذي تشهد السماء والأرض والجنّ والإنس أنه حقّ، والآخر مُبطل يشهد الشرق والغرب والبرّ والبحر أنه مبطل، ثم يُجَلِّي مواقع العبر من هذه الثورة المتأجّجة، فيُجَلِّي كيف قاتل شعب مسلم عربي أعزل دولةً كانت إلى الأمس القريب ترهبها الدول القوية، ويثقل ميزان الاعتبار والعظمة فيها جيشها ووفرة وسائلها، ويُجَلِّي الأسباب الحقيقية الكامنة في نفس المسلم العربي الجزائري التي دفعت إلى هذه الثورة، وهي إسلامه الصحيح وعروبته الصريحة وتاريخه المنطوي على المثل العليا من إباء الضيم وتمجيد الكرامة، وهي خلال حرّة أصيلة في دمه وجِبِلَّتِه، وكيف تعمدها الاستعمار الفرنسي بالمحو والإِنْساء حتى كاد يفقدها بعد أن أفقده وسائلها من مال وعزة وفضائل.

الصفحة 250