كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

حمل أولئك النفر من مصر ومن تونس إلى الجزائر قبسًا خافتًا من الأدب العربي، ولكنه كان كافيًا في تحريك القرائح والأذهان، وقارن ذلك أو سبقه بقليل وصول الآثار الأدبية الجديدة من شعراء الشرق المجلّين، وعرفت الجزائر شعر شوقي وحافظ ومطران والرصافي، وما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى كانت تلك الموثّرات المختلفة الموارد قد فعلت فعلها في نفوس الناشئة التي هي طلائع النهضة الأدبية، وشعرت الجزائر بعروبتها الأصيلة التي كانت كامنة كالنار في الحجر، والتمست القائد الملهم الذي ينفخ من روحه القوية في تلك البذرة لتخرج شطأها فتورق فتزهر أو تثمر فوجدته مهيّأ في شخص الأستاذ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله-، فاضطلع بقيادة تلك النهضة إلى أن أصبحت كاملة في الأدب والعلم والسياسة، وكانت هذه الفروع سائقًا بعضها إلى بعض، لأن ضرورة الوطن تستدعي سيرها في طريق واحد، وكان مظهرها الأعلى وعنوانها الأجلى جمعية العلماء، فهي التي جمعت الشتات، وأحيت الْمَوَات، وحدّدت المبادئ، ووفّرت الوسائل للقوادم المستعدة أن تطير وتحلّق، وللأفكار المقيّدة أن تبحث وتتعمّق، وبدأت النهضة الأدبية تسابق الإصلاح الديني وتغذّيه، وفي هذا الجو ظهر محمد العيد آل خليفة متأثّرًا بالنهضة ومؤثّرًا فيها.
...

محمد العيد آل خليفة أول شاعر تشظت عنه صَدَفَةُ النهضة في الجزائر، وشعره أول شعر حي رافق النهضة العامة وحدا قوافلها المغذة فأَطْرَب، وأول شعر جرى في عنانها وسجّل مراحلها، وهذه الدراسة التي نقدّمها للقرّاء اليوم هي أول دراسة يقدّمها شاب جزائري عن شاعر جزائري. فشعر محمد العيد، وجمعه في ديوان، وطبعه، ودراسته، ونقده كلها بواكير من الأدب العربي في الجزائر ... ونقول إن هذه الأشياء كلها بواكير لننبّه إلى أن مع البواكير عذرها في عدم النضج وعدم الكمال، فنمهّد للاعتذار عما يوجد في بواكيرنا من نقص وعدم شمول في البحث، وعدم تفقّه في الاستدلال.
ذلك أن النهضة الجزائرية المتعدّدة النواحي كانت أكبر من القائمين بها، فهي متشعّبة، والقوّامون عليها بجدّ وصدق نفر قليل، وكانت تتقاضاهم أن يهدموا ويرفعوا الأنقاض، ويبنوا ويشيّدوا ويعمروا ويربّوا ويعلّموا، كل ذلك في آن واحد، وأن يحاربوا عدّة أعداء في عدة ميادين: يحاربون الاستعمار، ويحاربون التدجيل في الدين، والضلال في العقائد، ويحاربون الإلحاد، كل ذلك مع قلّة الأنصار وقلّة المال، ولولا فضل الله عليهم ورحمته وصدق وعده معهم، لما جروا في هذه الميادين خطوة.

الصفحة 257