كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

ما حلّ الاستعمار بقوم إلا ساء صباحهم وعلا نواحهم، ولا حلّ بأرض إلا أباد خضراءها واحتجن أرزاقها، واحتنك أقواتها، واستعبد أهلها، واستباح حرماتها، وأخنى على مقوّماتها الحسّية والمعنوية، وكل هذا شيء مشهور أصبح الحديث عنه ضربًا من العبث ومضيعة للوقت، خصوصًا بعد أن أدبرت أيامه ونكست أعلامه في أغلب بقاع الأرض التي عاث فيها فسادًا، وملأها فجورًا وفواحش.
إن من أخصّ خصائص الاستعمار التي يبني عليها أمره قضاءه على المقوّمات الحيوية للأمم التي يلتهمها، فيبتليها بالضعف والوهن، وأسباب الموت البطيء أو الوحيّ. يريك أنه محافظ على مقوّماتك محترم لها، ويحلف على ذلك مُحرِجات الأيمان في الوقت الذي هو عامل على هدمها، وإتيان بنيانها من القواعد.
يبدأ بالوطن فينتزعه من أهله بالقوّة ثم يأتي بفلول من فقراء، أو وحوش وطنه الأصلي فيحلّهم محلّ أصحاب الوطن الأصليين، ويورثهم أرضهم وديارهم ثم يمتص أموال
الأغنياء المستعبدين بطرق شتّى آخرها فرض المغارم الثقيلة على كل بالغ وعلى داره التي يسكنها ولو كانت كوخًا، ثم على كل رأس من الحيوانات التي يملكها حتى الكلاب، وعلى كل حرفة يمارسها ويعيش العيش المقتر مما تفيء عليه، ثم ينتقل للجنس الذي يعتزّ المستعمر (بفتح الميم) بالانتساب إليه فيتجاهر بتنقصه واحتقاره وطمس مفاخره بجميع الوسائل، ويتعمّد محو تاريخه المدوّن وتجريح شواهده، وإلصاق جميع النقائص به، ثم ينتقل إلى الدين فيبتليه باحتكار وسائل حياته من أوقاف وغيرها ويضع يده على رجاله ويضيق في إقامة شعائره، ويغزوه بالمبشرين المتعصبين ثم ينتقل إلى اللغة- وهي المقوّم الأعظم للأمم- فيرميها بالتهوين والتوهين، ويحرّم تعليمها إلا بإذنه، ويثقلها بالقرارات والقوانين الجائرة حتى يصير تعليم القدر التافه منها شبه مستحيل، ثم يكاثرها بالرطانات الأوربية الجليبة فيفسح لها المجال ويمنحها العطف والرعاية لأنها لغة "الأسياد" ...
هذا إيجاز لوصف الاستعمار على عمومه ولموقفه من مقوّمات الأمم التي تبتلى به.
والآن ننفث زفرات حارة من استعمار واحد بلوناه وعرفناه عرفان اليقين وهو الاستعمار الفرنسي، في وطن واحد هو الشمال الافريقي، في مقومّ واحد وهو اللغة العربية.
كان للاستعمار الفرنسي عند اللسان العربي تِرَاتٌ وطوائل، فهو لا يزال يجهد جهده في محوه واستئصاله من الألسنة، وقد ارتكب جميع الوسائل الموبقة لمحوه من الجزائر، أما مراكش وتونس فلولا مكان القرويين في الأولى، والزيتونة في الثانية، لفعل بالعربية فيهما كل ما فاته فعله معها في الجزائر، وما فاته إلا القليل، وإن له لبرامج محضّرة يدّخرها لوقت الحاجة، فما فاته في بعض الأوطان، أو كان من المصلحة تنفيذه مطاولة، لا يفوته تنفيذه في

الصفحة 261