كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

وطن آخر مغافصة وبدون تردّد، وأبرز مثال لذلك: قضية الظهير البربري المشؤوم، فقد كان من المقرّر عنده تنفيذه في الجزائر مطاولة، فلما لم يستطع تنفيذه لأسباب، نفذه في المغرب الأقصى حتى محاه الاستقلال، كما محت قريش صحيفة القطيعة، وقد بلغ غضب الاستعمار الفرنسي على اللسان العربي في الجزائر أن أصدر أحد رؤساء حكومة فرنسا وهو "شوطان" ( Chautemps) قرارين عجيبين في شأنه في يوم واحد: الأول عطّل به جريدة من جرائد جمعية العلماء العربية، وختمه بما معناه: إن كل جريدة تصدرها جمعية العلماء في الجزائر باللغة العربية في المستقبل فهي معطّلة سلفًا، من دون احتياج إلى إصدار قرار بالتعطيل، والثاني حكم بأن اللغة العربية في الجزائر تعتبر لغة أجنبية لا يجوز تعلّمها ولا تعليمها إلا بإذن خاص من الحكومة الاستعمارية، هذا والشعب الجزائري شعب عربي صميم، ولنترك لرجال القانون الحكم على هذين القرارين.
وقد وصلت فرنسا إلى بعض غاياتها في بعض أبنائنا الذين حصلوا حظًا من الفرنسية في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى، فأصبحوا يعتقدون أنها قاصرة عن أداء المعاني العالية في الفلسفة وجميع العلوم العقلية والنفسية والصناعية يلوون ألسنتهم بهذا في مجالسهم الخاصة والعامة، ويلوح لسامعيهم أن أحاديثهم تشفّ عن إعجاب بالفرنسية وتعريض بالعربية، وإن هذا وحده لغميزة في عروبتهم ووطنيتهم ودينهم، وإن هذا لشر آثار الاستعمار في النفوس وأفتك أسلحته في أجيالنا الناشئة في ظل سيطرته منذ طراوة العود، والواقعة تحت وسوسته وسحره، وإن الذنب لذنب المجتمع الذي لم يأخذ بأسباب الحيطة لأبنائه وذنب الحكومتين التونسية والمراكشية اللتين لم تحتاطا للغة الأمّة ودينها، أما الجزائر، فاحمدوا الله على أن وصلتكم منها هذه الأشلاء الممزقة من العربية، وهذه الصورة الجافة من الدين.
والآن وقد تقلّص ظلّ الاستعمار الفرنسي أو كاد بعد أن ترك فينا ندوبًا يعسر محوها، فماذا أعددنا لعلاج الندوب التي تركها في مجتمعنا؟ وماذا ادّخرنا لعهد الاستقلال السعيد إذا أردنا أن يكون استقلالًا حقيقيًّا لا شبهة فيه، وماذا هيّأنا من الأشفية للداء العضال الكامن في بعض النفوس، وهو الحنين إلى أبغض العهود إلينا، وهو عهد الاستعمار الفرنسي؟ التجارب تدلّ على أنها ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل ألسنة تحن إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية على مخرج الراء العدنانية، وتتمنّى عاهة واصل بن عطاء لتستريح من النطق بالراء، وأفئدة "هواء" تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحنّ إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس وهمم دنية تحن إلى حمايتها المبسوطة على الرذائل والشهوات الحيوانية والغرائز الدنيا، فقد كان حكمها في الجزائر يحمي السكير بدعوى أنه حرّ، ويعاقب معلم العربية بالسجن والتغريم بدعوى أنه مجرم ثائر على القانون.

الصفحة 262