كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس، وهمم دنية تحنُّ إلى حمايتها ... وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبَدٌ للغة أجنبية، أو يتحرر شعب متنكر للسانه، فاستقلال العرب لا يتم تمامه إلّا بتعريب ألسنتهم، وأفكارهم، وهممهم، وذممهم" (38).
ومن حرصه على هذا الاستقلال اللغوي، وغيرته على اللغة العربية لم يتردد في أن يصدع بالنقد اللاذع لأكبر مؤسسة لغوية في العالم العربي، وهي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث قال في كلمته التي ألقاها باسم الأعضاء الجُدد في ذلك المجمع: " .. وأشد ما كنا ننكر من أعماله- المجمع- استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشِئٌ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان واستحكام التجارب، ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوِّمُ السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع كانوا مستشارين في وزارات الخارجية من بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية" (39).
وجاء نصر الله، وحطَّم الهلالُ الصليبَ (40)، وأرغم الشعبُ الجزائريُّ المجاهدُ فرنسا على تسفيه نفسها، ونَسْخِ أكذوبتها القائلة إن الجزائر فرنسية، وأجبرها بالقوّة على الاعتراف بـ "أن هذه الأمة الجزائرية المسلمة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدود معيَّن، هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة" (41).
__________
38) انظر مقال: "إلى مؤتمر التعريب بالرباط" في هذا الجزء من الآثار.
39) انظر مقال "كلمة في مجمع اللغة العربية" في هذا الجزء من الآثار.
40) كان جورج بِيدُو- رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها- يُكَرِّرُ في تصريحاته: "إن الصليب سَيُحَطِّمُ الهلآل " ( La Croix ecrasera le Croissant). انظر: Henri Alleg: La guerre d'Algèrie. Paris, Temps actuels, 1981, T1, p.454 ولكن الله خيّب ظنّه، ونصر الجزائر.
41) الإمام عبد الحميد بن باديس، كلمة صريحة، مجلة الشهاب، ج 1، م 12، قسنطينة، أبريل 1936.

الصفحة 27