كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

المتاخمة لها مثل إقليمنا، وقد خرج من عمود نسبنا بالذات في هذه القرون الخمسة علماء في العلوم العربية، ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمنا، ومنهم من هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه- على صعوبة الهجرة إذ ذاك- ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنهم بعد رجوعهم سمّوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر، وأنا أدركت في فروع بيتنا من تسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري.
نشأت في بيت والدي كما ينشأ أبناء بيوت العلم، فبدأت في التعلّم وحفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمري على التقليد المتّبع في بيتنا الشائع في بلدنا، وكان الذي يعلّمنا الكتابة ويلقّننا حفظ القرآن جماعة من أقاربنا من حفاظ القرآن، ويشرف علينا إشرافًا عاليًا عالم البيت بل الوطن كله في ذلك الزمان، عمي شقيق والدي الأصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي - رحمه الله-، وكان حامل لواء الفنون العربية غير مدافع، من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا، منهم العلّامة المتقن الشيخ ربيع قري اليعلاوي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي، ومنهم العلّامة الشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي، خاتمة المتبحّرين في العربية والفقه؛ ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجامعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة، وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية، وقلعة بني حماد، وكلتاهما قريبة من مواطننا، وكلتاهما كانت منارًا للعلم ومهجرًا لطلابه، ومطلعًا لشموسه، إلى الفترة التي تبدأ بالاحتلال التركي، وكان أئمة العلم لا يعتمدون في تخرّجهم على الشهادات الرسمية، وإنما كانوا يعتمدون على الإجازات من مشايخهم الذين يأخذون عنهم.
فلما بلغت سبع سنين استلمني عمي من معلّي القرآن وتولّى تربيتي وتعليمي بنفسه، فكنت لا أفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة، وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحة، فحفظت فنون العلم المهمة في ذلك السن مع استمراري في حفظ القرآن، فما بلغت تسع سنين من عمري حتى كنت أحفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه، وكنت أحفظ معه ألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل

الصفحة 273