كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

وعاد الإمام إلى الجزائر التي أحبَّها حبًا جمًّا، وأعطاها سواده وبياضه، وخدَمَها دون مَنٍّ، ولا انتظار جزاء ولا شكور، ولم ينغص عليه فرحته باستعادة الجزائر استقلالها، وبعودته إليها إلّا ما وجد فيها من شنآن بين المسؤولين بسبب السلطة التي كان أكثرهم يعتبرونها تشريفًا لا تكليفًا، ويرونها امتيازات لا أمانات يجب أن تؤَدَّى.
ولم تسمح له سنه والأمراض التي أنهكت جسمه أن يقوم بنشاط كبير في هذه الفترة. ومن أهمّ أنشطته ذات المغزى التاريخي إمامته المسلمين في أول صلاة جمعة في جامع كتشاوة الذي أعاده الله سيرته الأولى، بعد أن حوَّلته فرنسا إلى كاتدرائية. ومن أهم ما جاء في خطبته تحذيره الجزائريين من مخلفات فرنسا- المادية واللغوية والبشرية- في الجزائر، وخطورة هذه المخلفات على مستقبلها، فالاستعمار "قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضْطرِرْتُم إليه " (42). وإن الذي تعانيه الجزائر اليوم هو بسبب ما جَناهُ عليها هؤلاء الذين لم تخرج فرنسا من ألسنتهم، وأفكارهم وقلوبهم.
ورأى الإمام ببصره الانحرافَ الذي وقع فيه من قُدِّرَ له أن يكون على رأس القيادة في الجزائر في هذه الفترة، وأدرك ببصيرته عواقب ذلك الانحراف وخطره على مستقبل الجزائر، فصدع بكلمة الحق بحكمة، وهدوء، ونصح ذلك المسؤولَ أن يرجع إلى الجادَّة، ويفيء إلى الصواب (43). ولكنه- بدلًا من ذلك- ضاق صدره، وأخذته العزة فمدَّ يده إلى الإمام، الذي يمثل نصف قرن من الجهاد، وكنزًا من العلم والمعرفة، وذخيرة من التجارب ورَمْزًا للشعب الجزائري، فآذاه، فكانت عاقبة ذلك المسؤول خسرًا. وقد اعترف أخيرًا أنه يتحمل نصيبًا كبيرًا من مسؤولية الأزمة التي تتخبط فيها الجزائر اليوم.
وجاء أجَلُ الإمام الإبراهيمي، يوم 20 مايو 1965، فَرَجَعَتْ نفْسُه المطمئنة إلى ربِّها راضية مرضية، بعد أن أكرم الله صاحبها بالجهاد في سبيل دينه، ولغة كتابه، ودارٍ من ديار الإسلام، وحاز- كما تمنّى- في ثَراها قبرًا وإن لم يملك منه شبرًا.
وقد تلقّى العلماء والمفكرون في العالم العربي والإسلامي خبر موت الإمام بحزن عميق، ولوعة كبيرة، لمعرفتهم بمقدار الخسارة التي أصابت الأمة، وعظمة الثغرة التي كان يسدّها، فعثروا عن ذلك بكلمات صادقة، وعبارات مؤثرة، ومنها هذه القصيدة للشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، التي تطفح بالصدق، وتلخص بعض جهاد الإمام، وتُكْبِرُ عِلْمَه:
__________
42) انظر "الخطبة" في هذا الجزء من الآثار.
43) انظر "بيان 16 أفريل 1964" في هذا الجزء من الآثار.

الصفحة 28