كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

الحكومة الاستعمارية، إذ ليس لي سند آوي إليه كما لأخي ابن باديس، وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك، حتى صلاتي وخطبي الجمعية، فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي، ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي، فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني من تونس أو الحجاز، كل هذا وأنا لم أنقطع عن الدروس لطلاب العلم بالليل.
في هذه الفترة ما بين سنتَي 1920 و 1930 كانت الصلة بيني وبين ابن باديس قوية وكنا نتلاقى في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزورني في بلدي (سطيف) أو أزوره في قسنطينة، فنزن أعمالنا بالقسط ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبدًا، وكنا نقرأ للحوادث والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين.
كملت لنا على هذه الحالة عشر سنوات كانت كلها إعدادًا وتهيئة للحدث الأعظم وهو إخراج جمعية العلماء من حيّز القول إلى حيّز الفعل، وأصبح لنا جيش من التلامذة يحمل فكرتنا وعقيدتنا مسلّح بالخطباء والكتّاب والشعراء، يلتفّ به مئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيدة يجمعهم كلهم إيمان واحد، وفكرة واحدة، وحماس متأجج، وغضب حادّ على الاستعمار.
كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.
كانت سنة 1930 هي السنة التي تمّ بتمامها قرن كامل على احتلال فرنسا للجزائر، فاحتفلت بتلك المناسبة احتفالًا قدّرت له ستة أشهر ببرنامج حافل مملوء بالمهرجانات ودعت إليه الدنيا كلها، فاستطعنا بدعايتنا السرّية أن نفسد عليها كثيرًا من برامجها، فلم تدم الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا ونلفت أنظاره إلينا.
تكامل العدد وتلاحق المدد ... العدد الذي نستطيع أن نعلن به تأسيس الجمعية، والمدد من إخوان لنا كانوا بالشرق العربي مهاجرين أو طلاب علم، فأعلنا تأسيس الجمعية في شهر مايو سنة 1931 بعد أن أحضرنا لها قانونًا أساسيًا مختصرًا من وضعي أدرته على قواعد من العلم والدين لا تثير شكًا ولا تخيف، وكانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيّبنا ظنها والحمد لله.

الصفحة 280