كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

هذه معظم الأمهات التي تدخل في صميم أعمال الجمعية، منها ما بدأناه بالفعل ولاقينا فيه الأذى، فصبرنا حتى كانت العاقبة لنا، ومنها ما طالبنا به حتى أقمنا حق الأمّة فيه، وفضحنا الاستعمار شرّ فضيحة، ومجموع هذه المطالب في ظاهرها دينية، ولكنها في معناها وفي نظر الاستعمار هي نصف الاستقلال.
كانت السنة الأولى من عمر الجمعية سنة غليان: من جهتنا في تكوين الشُّعَب في كل مدينة وكل قرية لتنفيذ مقاصد الجمعية، وغليان السخط علينا من الاستعمار لأننا فاجأناه بما تركه مشدوهًا حائرًا لا يدري ما يفعل ولا من أين يبدأ في مقاومة حركتنا، وتفرّق أعضاء الجمعية على القطر كله يرشدون ويعظون ويزرعون الوعي، ويراقبون حركة التعليم ويحضرون أماكنه.
وعقدنا الاجتماع العام في السنة الثانية، فكانت النتيجة باهرة، والعزائم أقوى والأمّة إلينا أميل. وخرج المتردّدون عن تردّدهم فانضموا إلينا، وأعيد انتخاب المجلس فأسفر عن بقاء القديم وزيادة أعضاء ظهرت مواهبهم في العلم، وكشّر الاستعمار عن أنيابه، فبدأ يمنعنا من إلقاء الدروس في المساجد الواقعة في قبضته، وثارت نخوة الأمّة فأنشأت بمالِها بضعة وتسعين مسجدًا حرًّا في سنة واحدة في أمهات القرى.
...

في هذه السنة قررت الجمعية تعيين العلماء الكبار في عواصم المقاطعات الثلاث ليكون كل واحد منهم مشرفًا على الحركة الاصلاحية والعلمية في المقاطعة كلها، فأبقينا الشيخ ابن باديس في مدينة قسنطينة وحملناه مؤونة الإشراف على الحركة في جميع المقاطعة، وخصصنا الشيخ الطيب العقبي بالجزائر ومقاطعتها، وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي، وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات، وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدإ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات.

الصفحة 283