كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها، وكانت أيام جولتي كلها أيام أعراس عند الشعب، يتلقونني على عدة أميال من المدينة أو القرية، وينتقل بعضهم معي إلى عدة مدن وقرى، فكان ذلك في نظر الاستعمار تحديًّا له ولسلطته، وفي نظر الشعب تمجيدًا للعلم والدين وإغاظة للاستعمار، فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة وعقدنا الاجتماع العام وفي أثره الاجتماع الإداري وقدم كل منا حسابه، ونظمنا شؤون السنة الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا.
بلغت إدارة الجمعية وهي في مستهل حياتها من النظام والقوة مبلغًا قويًّا بديعًا فأصبحنا لا نتعب إلّا في التنقل والحديث، أما الحكومة الاستعمارية فإننا بنينا أمرنا من أول خطوة على الاستخفاف بها وبقوانينها، وقد كنا نعلن في جرائدنا كل أسبوع بأن القوانين الظالمة لا تستحق الاحترام من الرجال الأحرار، ونحن أحرار فلتفعل فرنسا ما شاءت، وكان هذا الكلام ومثله أنكى عليها من وقع السهام لأنها لم تألف سماعه، وقد اطمأنت إلى أن الشعب الجزائري قد مات كما صرح بذلك أحد ساستها الكبار في خطبة ألقاها على ممثلي الأمم في المهرجان الذي أقامته في عيدها المئوي لاحتلال الجزائر، وكان مما قال: "لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار".
وكانت أعمال الإخوان في المقاطعتين الأخريين مشابهة لأعمالي بمقاطعة وهران لأننا نجري على منهاج واحد، ونسير على برنامج واحد عاهدنا الله على تنفيذه.
ولما ضاقت فرنسا ذرعًا بأعمالي ونفد صبرها على التحديات الصارخة لها، وأيقنت أن عاقبة سكوتها عنا هو زوال نفوذها وخاتمة استعمارها، اغتنمت فرصة نشوب الحرب العالمية الثانية، وأصدر رئيس وزرائها إذ ذاك "دالاديى" ( Daladier) قرارًا يقضي بإبعادي إلى الصحراء الوهرانية إبعادًا عسكريًا لا هوادة فيه، لأن في بقائي طليقًا حرًا خطرًا على الدولة، كما هي عبارته في حيثيات القرار، ووكل تنفيذ قراره للسلطة العسكرية فنقلوني للمنفى في عاشر أفريل سنة 1940، وبعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء، كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وعلاجه، وقد شيع جنازته عشرات الألوف من الأمة رغمًا عن قسوة الأحكام العسكرية وقت الحرب، واجتمع المجلس الإداري للجمعية ورؤساء الشُّعَب يوم موته وانتخبوني رئيسًا لجمعية العلماء بالاجماع، وأبلغوني الخبر وأنا في المنفى فأصبحت أدير الجمعية وأصرف أعمالها من المنفى بالرسائل المتبادلة بيني وبين

الصفحة 284