كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)
لفرنسا من غل وحقد وبغضاء، ومَنْ غرس الحنظل جنى المر، فقد غرست فرنسا أسباب هذه المعاني في نفسه، ثم عاملته معاملة لا يعامل الحيوان الأعجم بعشر معشارها، في حقبة من الزمن تمتد إلى مائة وأربع وعشرين سنة.
وهذه عواقب السياسة البليدة التي تسوس بها فرنسا شمال أفريقيا في هذا الزمن الذي تحرك ما فيه حتى الحجر، وثارت فيه كل الشعوب المظلومة تنتصر لنفسها من ظلم الطغاة، فلم تتعظ فرنسا بشيء من ذلك، ولم توقظها النذر المتلاحقة والحروب الماحقة، ولا ذكرت أمسها القريب حين أحاطت بها خطيئاتها وأوبقتها جرائرها فسقطت فريسة تحت أرجل عدوها في مثل فواق الحالب. ووالله لو أن فرنسا أبقت في قلوبنا مثقال ذرة من الرحمة لها، لأشفقنا عليها من هذا الإفلاس الذي أصابها في رأس مالِها من مال ورجال ورأي وفكر، حتى لو أن قائلًا قال لها: إن اليوم غير الأمس، لحاولت من عنادها أن ترد الشمس.
تأجج اللهيب بتونس فقلنا: هذا نذير من النذر الأولى، وعسى أن تكون لفرنسا فيه عبرة، وتأجج في مراكش، فقلنا: عسى أن يكون لها فيه مزدجر، وها هو ذا يتأجج في الجزائر، ولو كانت فرنسا على بقية من كياس وعقل لجارت تيار الزمن ولم تعاكسه ولضمنت لنفسها البقاء مع الناس، ولو بضع سنين، فأما الدوام مع الظلم فلا مطمع فيه، وإن كانت في ريب من تحول الأحوال فلتسأل رفات أمها روما .... ولكن الذي علمناه من احتكاكنا بهذه المخلوقة العجيبة ودرسناه من أهوائها وطبائعها أنها لا تصدر عن عقل، ولا تَرِدُ على بصيرة، وأنها لا ترضى المشاركة في الحياة وأن القاعدة التي تبني عليها أمرها هي: إما ربح كامل، وإما خسار شامل، وأن حياتها مشروطة بموت غيرها، وعليه فلماذا تلوم الناس إذا اعتقدوا أن حياتهم مشروطة بموتها؟
الشمال الأفريقي قطع متجاورات من إرث العروبة والإسلام، اجتمعت في كل شيء وهو من صنع الله، واجتمعت في شيء واحد من عقل الشيطان وهو الاستعمار الفرنسي، فإذا اجتمعت اليوم في الثورة على ظلم فرنسا وطغيانها، فلعل هذا هو آخر الجوامع الإلهية التي تغض بها إلى أولها، كما تغض الحلقة الأخيرة من السلسلة المفصومة إلى الحلقة فإذا هي دائرة ...
ومن صنع الله للأمم الضعيفة حينما يهيّئُها لأن تكون من الأئمة الوارثين أن يخلف فيها من الاستعدادات ما لم يكن فهو كائن، فكيف بالأمة التي أعطاها كل شيء، فملكت بالعدل وساست بالإحسان، وسارت على نور الحق، ثم زاغت عن صراطه قليلًا فتخلى عنها قليلًا، وها هي ترجع إليه قليلًا، وتسير إلى مرضاته دبيبًا، وتغيّر ما بنفسها عسى أن يغير حكمه عليها.
الصفحة 38
416