كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

إن التفسير الحزبي لتاريخ الثورة قد أساء إلى الثورة نفسها حتى الآن. فمن جهة ندعي أنها ثورة شعبية وتلقائية ومن جهة أخرى ندعي- باسم حزب كذا- أنه لولا الزعيم الفلاني ولولا التنظيم الخلّاني لما كانت الثورة أصلًا، وهذا افتئات على الواقع وعلى حق الشعب في الانتماء والاختيار، ومع ذلك فإننا نذكر، للمقارنة والتوضيح، أن زعماء الحركة الوطنية ليسوا سواء في الثبات على المبدإ، وفي الالتزام بحق الشعب في الحرية والذاتية السياسية، ويبدو لنا أن الشيخ الإبراهيمي، كزعيم وطني، كان الوحيد الذي لم ينحرف عن الخط الذي رسمته الجمعية، كما انحرف غيره من الزعماء عن الخط الذي رسمه تنظيمهم. فقد واصل الشيخ الإبراهيمي الدفاع عن مبادئ الجمعية وحق الشعب الجزائري في التمتع بشخصيته السياسية والحضارية خارج البوتقة الاستعمارية الفرنسية، وقد وقف الشيخ الإبراهيمي مع هذا المبدإ سواء كان في الجزائر أو في الخارج، وعندما أعلن الشعب ثورته كان الشيخ الإبراهيمي أول من احتضنها من الزعماء (نقصد بالخصوص مصالي وعباس) رغم أنه كان في المشرق بعيدًا عن الوطن.
وستكشف الوثائق التي نقدمها أن الإعلان عن ذلك الاحتضان والدعوة إلى الالتحام بالثورة كان منذ الأيام الأولى لشهر نوفمبر 1954.
ومن الإنصاف أن نقول إن هناك فرقًا بين تبنّي الثورة والدعوة لها وبين الانضمام لجبهة التحرير والالتزام بشرعيتها. والذي يدرس تطور الأحداث خلال خريف وشتاء 1954 يدرك أن اللجنة التي كونت جبهة التحرير وأعلنت الثورة لم تكن معروفة حتى لزعماء الحزب الذي خرجت منه، فما بالك بقادة التنظيمات الأخرى، ولا سيما من كان منهم بالخارج مثل الشيخ الإبراهيمي. ومن الطبيعي أن يبادر الشيخ الإبراهيمي إلى تأييد الثورة والدعوة لها دون التسرع في الانضمام للهيكل الذي يقود الثورة، وهو جبهة التحرير، وإذا كانت جبهة التحرير غير معروفة في أول الأمر حتى لأقرب الناس في الحزب الذي خرجت منه فمن باب أولى وأحرى ألا تكون معروفة للشيخ الإبراهيمي وغيره من الجزائريين. حقيقة أن الجبهة قد عينت ممثلين منها في الخارج، وكان مقر هؤلاء بالقاهرة أيضًا، ولا شك أن الاتصالات قد وقعت بين هؤلاء وبين الشيخ الإبراهيمي، ولكن هؤلاء الأعضاء كانوا أيضًا مجهولين لدى الشيخ الإبراهيمي، وكانوا قبل الثورة مجرد ممثلين لحزب له زعيم معروف للشيخ الإبراهيمي، فإذا بهم يصبحون ممثلين لتنظيم آخر ليس له زعيم معروف. إضافة إلى ذلك فإن الصلة الوطيدة التي كانت بين بعض أعضاء مكتب المغرب العربي وبين السلطات المصرية كانت لا تساعد الشيخ الإبراهيمي على إعلان تأييده السريع لجبهة التحرير من أول وهلة، مكتفيًا بتبني الثورة باعتبارها حدثًا شعبيًّا وتاريخيًّا، في انتظار انجلاء الوضع عن هيكلة الثورة وقيادتها الجديدة.

الصفحة 7