كتاب آراء ابن عجيبة العقدية عرضا ونقدا

والأمثلة على ذلك كثيرة منها: عند قول الله - عز وجل - {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (¬١)، يقول: "يشير إلى بحر علم الشريعة، وبحر علم الحقيقة يلتقيان في الإنسان الكامل {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (¬٢)، وهو العقل فإنه يحجز الشريعة أن تعدوا محلها والحقيقة أن تجاوز محلها، فالشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، والعقل برزخ بينهما (¬٣).
فكيف لابن عجيبة أن يقول بهذا مع أنه يشار إليه بالبنان في علوم شتى، فسبحان من له الأمر وإليه الحكم جلَّ جلاله، وهذه الطريقة التي سلكها في تفسيره آي القرآن مردودة إن لم يأتِ بشروطها.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس، وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس؛ الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام؛ لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك فإن كانت (الإشارة اعتبارية) من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة، وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه وإن كان تحريفًا للكلام عن مواضعه وتأويلًا للكلام على غير تأويله كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية" (¬٤)،
وقال أيضًا: "إن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب
---------------
(¬١) سورة الرحمن: ١٩.
(¬٢) سورة الرحمن: ٢٠.
(¬٣) ينظر: البحر المديد ٧/ ٤٠٥.
(¬٤) مجموع الفتاوى ٦/ ٣٧٧.
والقرامطة: هم أتباع حمدان بن قرمط، كان رجلًا متواريًا، صار إليه دعاة الباطنية ودعوه إلى معتقدهم فقبل الدعوة، ثم صار يدعو الناس إليها، وكان هلاكه سنة ٢٦٤ هـ. ـ ينظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، للرازي، ص ٧٩.
والباطنية: هم قومٌ تستروا بالإسلام، ومالوا إلى الرفض، من عقائدهم: تعطيل الصانع، وإبطال النبوة، والعبادات، وإنكار البعث، وهم لا يُظهرون هذا في أول أمرهم، بل يزعمون أنَّ الله حق، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، والدين صحيح، لكنهم يقولون لذلك سرًّا غير ظاهر، وانتشرت هذه الفرقة في زمان المعتصم، وأبرز مؤسسي هذه الدعوة ميمون بن ديصان، المعروف بالقداح، وأطلق عليها ألقاب كثيرة، ومذهبهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قوم الإمام المعصوم ... وأنَّ كل زمان لا بدَّ فيه من إمام معصوم، ومن عقائدهم: السرية الشديدة، وذهب قومٌ منهم إلى القول بوجود إلهين ويسمون الأول عقلًا، والثاني نفسًا، تكذبًا خرصًا، ينظر: تلبيس إبليس، ص ١١٥، الفرق بين الفرق، ص ٢٨٤ - ٢٨٥، فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، ص ٣٧.

والجهميَّة: هم طائفةٌ من المبتدعة يُنسبون إلى جهم بن صفوان السمرقندي، من بدعهم التي أحدثوها: القول بنفي الأسماء والصفات عن الله تعالى، وأنَّ العبد مجبور على فعله ولا قدرة له ولا اختيار، وأنَّ الإيمان هو المعرفة، ولا يزيد ولا ينقص، وكانت وفاته سنة ١٢٨ هـ. ينظر: الفرق بين الفرق، ص ٢١١، مقالات الإسلاميين ١/ ٢١٤، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤/ ٢٠٤، الملل والنحل ١/ ٨٦.

الصفحة 85