كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

كَافِرٌ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَهُ تَفْصِيلٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا، بِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ؛ وَذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَالْجِهَةِ، أَوْ الْخَوْضِ فِي إنْكَارِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا بِلَا إشْكَالٍ.
وَكَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَإِنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ عَلَى الْخَلْقِ بِالنَّارِ جَوْرٌ.
وَكَقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ: إنَّ الْبَارِيَ جِسْمٌ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ، وَبَعْدَ هَذَا تَفَاصِيلُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وَيُجَرُّ إلَيْهَا، وَفِي التَّكْفِيرِ بِهَا تَدْقِيقٌ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ مَعَانٍ؛ كَالسُّرُورِ وَالْهَمِّ، وَلَيْسَتْ صُوَرًا، وَلَا فِيهَا أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ، وَلَا وَطْءٌ وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا مُهْلٌ يُشْرَبُ، وَلَا نَارٌ تَلَظَّى.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ بِعُقُولِهَا فِي السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمِهِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الزُّورِ، وَعَمَّا كَانَتْ الرُّهْبَانُ تَفْعَلُهُ، وَالْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ تَبْتَدِعُهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ، أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] إشَارَةً إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ.

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]: وَفِي ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَأُمِرُوا أَيْضًا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ

الصفحة 475