كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

الْمُشْرِكِينَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ تَخْصِيصًا لِمَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَهُمْ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَجْأَةً عَلَى جَهَالَةٍ.
فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ؛ فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحِلِّهِمْ بِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ إنَّمَا كَانَ لِأَجَلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وَاَلَّذِينَ يُخْتَصُّونَ بِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَة أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا دَانُوا بِدِينِ الْحَقِّ.

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَطِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّهَا جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، كَمَا تَقُولُ: جَزَى كَذَا عَنِّي يَجْزِي إذَا قَضَى.

الصفحة 476