كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ، وَتَخْصِيصِ مَا عَمَّ وَشَمَلَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ، لِبُطْلَانِهِ.
أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُفَرِّقُهَا».
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ آلَافٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابًا، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ الصَّدَقَةِ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ: أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ».
فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ الْمَالِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَاغِ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ.

الصفحة 490