كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " رَجَبُ مُضَرَ " فَبِمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَأَحْسِبُهُ مِنْ رَبِيعَةَ، كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْصِيصَهُ بِالْبَيَانِ بِاقْتِصَارِ مُضَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِتَحْقِيقِ الْحَالِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى رَفْعِ مَا كَانَ وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ.

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا.
وَقِيلَ فِي الثَّانِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِتَحْلِيلِهِنَّ.
وَقِيلَ: بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ فِيهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً بِعَدَدِ جِهَاتِ التَّحْرِيمِ، وَيَتَضَاعَفُ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السُّوءِ فِيهَا، كَمَا ضَاعَفَ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا؛ فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ فِي بَلَدٍ حَلَالٍ فِي بُقْعَةٍ حَلَالٍ.
وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ وَالْعَذَابُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْحَالَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] لِعِظَمِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

[مَسْأَلَة كَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وكَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ؟ قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ:

الصفحة 499