كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

[مَسْأَلَة حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا اللَّهُ: حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَحَيْرَتِهِ.
أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَحْزَنْ، لَيْسَ بِمُوجِبٍ بِظَاهِرِهِ وُجُودَ الْحُزْنِ، إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
فَقَالَ لَهُ: «لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا»؛ لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَنْقُصُهُ إضَافَةُ الْحُزْنِ إلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَنْقُصْ إبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ عَنْهُ: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ عَنْهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].
وَهَذَانِ الْعَظِيمَانِ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمْ التَّقِيَّةُ نَصًّا، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ هَاهُنَا بِاحْتِمَالٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا مِنْ الضَّرَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَعِيفَ الْقَلْبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَخْفِ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بَلْ ظَهَرَ وَقَامَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ بِقُوَّةِ يَقِينٍ، وَوُفُورِ عِلْمٍ، وَثُبُوتِ جَأْشٍ، وَفَصْلٍ لِلْخُطْبَةِ الَّتِي تُعْيِي الْمُحْتَالِينَ.

[الْآيَة الرَّابِعَة وَالْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا]
وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

الصفحة 515