كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ.
وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَالِكٌ: إنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَلَا يُعْلَمُ إيمَانُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ.
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْآنَ، وَفِي كُلِّ حِينٍ، يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَإِذَا عَثَرْنَا عَلَيْهِ وَقَالَ: تُبْت لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
وَقَبُولُ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَوْبَةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ بِنَقِيضِهَا فِي الْآتِيَةِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعُمُومٍ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ حَالَةٍ؛ وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْقَبُولَ الْمُطْلَقَةَ فَيَكْفِي فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى لِلَّفْظِ وُجُودُهُ مِنْ جِهَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.

[الْآيَة الْمُوفِيَة ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ]
َّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ اُخْتُلِفَ فِي شَأْنِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لِثَعْلَبَةَ، فَوَعَدَ إنْ وَصَلَ إلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ الدِّيَةُ لَمْ يَفْعَلْ.
الثَّانِي: أَنَّ ثَعْلَبَةَ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَنَذَرَ إنْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَفْعَلْ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ أَنَّ «ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيَّ الْمَذْكُورَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا أَتَصَدَّقُ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ

الصفحة 546