كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

أَقْبَلَ مِنْك صَدَقَتَك فَقَامَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ أَمَرْتُك فَلَمْ تُطِعْنِي فَرَجَعَ ثَعْلَبَةُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى عُثْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -». وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ.

[مَسْأَلَة الْعَهْدَ وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]: قِيلَ: إنَّهُ عَاهَدَ بِقَلْبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] إلَى قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ ضَعِيفٌ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِهِ الْعَهْدَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْأَيَّامَ بِعَوَاقِبِهَا.
وَلَفْظُ الْيَمِينِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَمِينٌ إلَّا مُجَرَّدُ الِارْتِبَاطِ وَالِالْتِزَامِ، أَمَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ: اللَّامُ الْوَاحِدَةُ الْأُولَى لَامُ الْقَسَمِ بِلَا كَلَامٍ، وَالثَّانِيَةُ لَامُ الْجَوَابِ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا لَامَا الْقَسَمِ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِيَمِينٍ أَوْ بِالْتِزَامٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ بِنِيَّةٍ، فَإِنَّهُ عَهْدٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْعَهْدَ وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمُهُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ سُئِلَ: إذَا نَوَى رَجُلٌ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ، يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ، وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِهِ، فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ.
أَصْلُهُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ.

الصفحة 548