كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا خَذَلَهُ اللَّهُ لَحِقَ بِالرُّومِ يَطْلُبُ النَّصْرَ مِنْ مَلِكِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، يَأْمُرُهُمْ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ إذَا رَجَعَ، وَأَنْ يَسْتَعِدُّوا قُوَّةً وَسِلَاحًا؛ وَلِيَكُونَ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمْ لِلطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَأَرْسَلَ لِهَدْمِهِ وَحَرْقَهُ، وَنَهَاهُ عَنْ دُخُولِهِ، فَقَالَ وَهِيَ:

[الْآيَة التَّاسِعَة وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ]
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {أَبَدًا} [التوبة: 108]: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ عَلَى لُغَتِهِمْ، وَمُطْلَقٌ عَلَى لُغَتِنَا؛ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ.
وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ فِيهِ هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَهِيَ أَنَّ " أَبَدًا " وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِالنَّهْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ، لَا مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ لَكَفَى فِي الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا قَالَ " أَبَدًا " فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فِي حِينٍ مِنْ الْأَحْيَانِ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً.

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108]: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ.
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ.

الصفحة 583