كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 2)

[مَسْأَلَة العهد يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]: الْعَهْدُ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَلَا بُدَّ مِنْ وَفَاءِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْكُلِّ، فَأَمَّا وَعْدُهُ فَلِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا وَعِيدُهُ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ وَبِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيَنْفُذُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ فَاتَ عُلَمَاءَنَا هَذَا الْمِقْدَارُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. .

[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى التَّائِبُونَ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ} [التوبة: 112]: الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
وَالْعَابِدُونَ: هُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمْ وَجْهَهُ.
وَالْحَامِدُونَ: هُمْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، وَالْمُصَرِّفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ.
وَالسَّائِحُونَ: هُمْ الصَّائِمُونَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى فَسَدَ الزَّمَانُ فَصَارَتْ السِّيَاحَةُ الْخُرُوجَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ الْخَلْقِ، لِعُمُومِ الْفَسَادِ وَغَلَبَةِ الْحَرَامِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ وَسِعَتْنِي الْأَرْضُ لَخَرَجْت فِيهَا، لَكِنَّ الْفَسَادَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا، فَفِي كُلِّ وَادٍ بَنُو نَحْسٍ، فَعَلَيْك بِخُوَيْصَةِ نَفْسِك وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هُمْ الْقَائِمُونَ بِالْفَرْضِ مِنْ الصَّلَاةِ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، الْمُغَيِّرُونَ لِلشِّرْكِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالْآمِرُونَ بِالْإِيمَانِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِهِ.
الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: خَاتِمَةُ الْبَيَانِ وَعُمُومُ الِاشْتِمَالِ لِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] بِثَوَابِي إذَا كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَتِي لِلْقَتْلِ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سِلْعَةً مَرْغُوبًا فِيهَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا الْأَطْمَاعُ، وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التِّجَارَاتِ وَالْمَتَاعِ، فَأَمَّا نَفْسٌ لَا تَكُونُ هَكَذَا، وَلَا تَتَحَلَّى بِهَذِهِ الْحِلَى فَلَا يُبْذَلُ فِيهَا فَلْسٌ، فَكَيْفَ الْجَنَّةُ؟ لَكِنَّ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ مُبَشَّرٌ عَلَى قَدْرِهِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَهُ الْفَوْزُ قَطْعًا، وَمَنْ خَلَطَ فَلَا يَقْنَطْ وَلَا يَأْمَنْ، وَلْيُمْسِ تَائِبًا، وَيُصْبِحْ تَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَسَائِلًا لِلتَّوْبَةِ، فَإِنَّ سُؤَالَهَا دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى يَمُنَّ اللَّهُ بِحُصُولِهَا.
فَهَذِهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَمَامُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِي الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الصفحة 590