كتاب أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (اسم الجزء: 4)

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ]
َ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ: هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ:
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ ... مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ
وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ ... وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ
وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] يَعْنِي ثَابِتَاتٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ.

الصفحة 6