كتاب الفوائد لابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

مُباهِتٌ جاحدٌ لما شَهِد به العيانُ وتَناقَلتْهُ القرونُ قرنًا بعد قرنٍ؛ فإنكارُهُ بمنزلةِ إنكارِ وجودِ المشهورينَ من الملوكِ والعلماءِ والبلاد النائية.
ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: ١٥]؛ يُقالُ لكلِّ من عجز عن شيءٍ: عَيِيَ به، وعَيِيَ فلانٌ بهذا الأمرِ.
قال الشاعر (¬١) :
عَيُّوا بأمْرِهِمُ كَما ... عَيَّتْ بِبَيضَتِها الحَمامَهْ
ومنه قولُه تعالى: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: ٣٣]. قال ابن عباس: يريدُ: أفَعَجَزْنا؟ وكذلك قال مقاتلٌ.
قلت: هذا تفسيرٌ بلازم اللفظة، وحقيقتُها أعمُّ من ذلك؛ فإنَّ العرب تقولُ: أعياني أن أَعرِف كذا وعَيِيْتُ به: إذا لم تَهْتَدِ لوجهِهِ ولم تقْدِرْ على معرفته وتحصيله، فتقولُ: أعياني دواؤك: إذا لم تهتدِ له ولم تقفْ عليه، ولازم هذا المعنى العجزُ عنه. والبيتُ الذي استشهدوا به شاهدٌ لهذا المعنى؛ فإنَّ الحَمامةَ لم تعْجِزْ عن بَيضتِها، ولكن أعياها إذا أرادت أن تَبِيْضَ أين تَرْمي بالبيضةِ؛ فهي تدورُ وتَجُولُ حتى تَرميَ بها؛ فإذا باضَتْ أعياها أين تَحفظُها وتُودِعُها حتى لا تُنال؛ فهي تَنقُلُها من مكانٍ إلى مكانٍ وتَحَار أين تجعلُ مَقرَّها؛ كما هو حالُ من عَيِيَ (¬٢) بأمرِهِ فلم يدرِ من أين يَقصِدُ له ومن أين يأتيهِ.
وليس المرادُ بالإعياءِ في هذه الآية التعبَ كما يظنُّه من لم يَعرِفْ
---------------
(¬١) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه (ص ١٣٨) برواية أخرى، وفي لسان العرب (حيا، عيا) بهذه الرواية.
(¬٢) في الأصل: "اعيى".

الصفحة 11