كتاب الفوائد لابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

فصل
أقام الله سبحانه هذا الخلقَ بين الأمر والنهي والعطاء والمنع؛ فافترقوا فرقتين:
فرقة قابلتْ أمرَه بالترك، ونهيَه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط. وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك؛ فإن أمرتَنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتَنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتَنا حمدناك، وإن منعتَنا تضرَّعنا إليك وذكرناك.
فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا؛ فإذا مزَّقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين؛ كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة؛ فإذا مزَّقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم.
فإذا تصادمتْ جيوشُ الدُّنيا والآخرة في قلبك، وأردتَ أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر: مع من تَميل منهما ومع من تُقاتل، إذْ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين؛ فأنت مع أحدهما لا محالةَ.
فالفريق الأول استغشُّوا الهوى فخالفوهُ، واستنصحوا العقلَ فشاوروه، وفرَّغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له، وجوارحهم للعمل بما أُمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يَعمُر منازلَهم في الآخرة، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها، فعجَّل لهم

الصفحة 281