كتاب الفوائد لابن القيم - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)
نعمة الهداية، ولا يشكره عليه، ولا يُثني عليه بها، ولا يحبُّه؛ فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محلِّهِ؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيهِمْ مِنْ بَينِنَا أَلَيسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)} [الأنعام: ٥٣]، وقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: ٢٣]؛ فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية؛ كان ذلك محض العدل؛ كما إذا قضى على الحيَّةِ بأنْ تُقْتَل وعلى العقرب وعلى الكلبِ العقور (¬١)؛ كان ذلك عدلًا فيه، وإنْ كان مخلوقًا على هذه الصفة.
وقد استوفَينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاءِ والقدر (¬٢).
والمقصودُ أنَّ قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ": ردٌّ على الطائفتين: القدريَّة الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده، ويُخرِجون أفعال العبادِ عن كونها بقضائه وقدره، ويردُّون القضاء إلى الأمر والنَّهي! وعلى الجبْريَّة الذين يقولون: كلُّ مقدورٍ عدلٌ! فلا يبقى لقولِهِ: "عدْلٌ فيَّ قضاؤُك": فائدةٌ؛ فإنَّ العدل عندهم كلُّ ما يمكنُ فعلُه، والظلمُ هو المحالُ لذاتِهِ! فكأنَّه قال: ماضٍ ونافذٌ فيَّ قضاؤُك. وهذا هو الأولُ بعيِنهِ.
• وقولُهُ: "أسألُكَ بكلِّ اسم ... " إلى آخرِهِ: توسُّلٌ إليه بأسمائه كلِّها؛ ما علم العبدُ منها وما لم يعلم. وهذه أحبُّ الوسائل إليه؛ فإنَّها
---------------
(¬١) ورد في قتل الحية حديث أخرجه البخاري (١٨٣٠) عن ابن مسعود. وفي قتل العقرب والكلب العقور أحاديث منها ما أخرجه البخاري (١٨٢٨) ومسلم (١٢٠٠) عن حفصة رضي الله عنها.
(¬٢) يعني كتابه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل".