كتاب نونية ابن القيم الكافية الشافية - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

عرّفنا بالله وهدانا إليه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مِشكاة الوحي (¬١). فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقّاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد. فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة. وعَلِم (¬٢) أنه تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرَّفَ به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلةَ الغذاء أعظمَ ما كان إليه فاقة (¬٣)، ومنزلةَ الشفاء أشدَّ ما كان إليه حاجة. فاشتدّ بها فرحُه، وعظم بها غناه (¬٤)، وقويت بها معرفته، واطمأنّت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه. فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام (¬٥) عينَ
---------------
(¬١) المشكاة: كل كوة غير نافذة، ومنه قوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: ٣٥] والمشكاة أيضًا قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها، وهي موضع الفتيلة. اللسان ١٤/ ٤٤١، القاموس ١٦٧. ومراد المؤلف بالمشكاة نور الوحي من الكتاب والسنة.
(¬٢) ط: "فعلم".
(¬٣) الفاقة: الفقر والحاجة.
(¬٤) في ح، ط: "غناؤه".
(¬٥) أسام: من سامت الماشية تسوم سومًا: رعت حيث شاءت، وأسامها إذا أخرجها إلى الرعي وخلّاها ترعى. اللسان ١٢/ ٣١١، ومراد المصنف رحمه الله: أن هذا الناظر أرعى عين بصيرته في هذه الرياض والبساتين حتى استفاد منها واقتبس معرفة وعلمًا.

الصفحة 8