كتاب نونية ابن القيم الكافية الشافية - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: المتن)

ظلامُه، شديدٌ قتامُه. وسبيلُ الحقِّ عافيةٌ آثارُه، مطموسةٌ أعلامُه. ففلَقَ اللهُ سبحانه بمحمّد - صلى الله عليه وسلم - صبحَ الإيمان، فأضاء حتى ملأ الآفاقَ نورًا، وأطلع به شمسَ الرسالة في حَنادِسِ الظُّلَمِ سراجًا منيرًا، فهدَى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وبصَّرَ به من العمَى، وأرشدَ به من الغيّ، وكثَّرَ به بعد القلّة، وأعزَّ به بعد الذلّة، وأغنَى به بعد العَيْلة، واستنقذ به من الهَلَكة، وفتح به أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفا.
فبلّغَ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصَحَ الأمّة وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وعَبَد اللهَ حتى أتاه اليقين من ربّه. وشرح الله له صدرَه، ورفع له ذكرَه، ووضع عنه وِزرَه، وجعل الذلّةَ والصَّغارَ على من خالف أمرَه.
وأقسم بحياته في كتابه المبين. وقرَنَ اسمَه باسمِه، فإذا ذُكِر ذُكِر معه، كما في الخطب والتشهد والتأذين. فلا يصحّ لأحد خطبةٌ ولا تشهدٌ ولا أذانٌ ولا صلاةٌ، حتى يشهد أنه عبده ورسوله شهادة اليقين. فصلّى اللهُ وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وجميعُ خلقِه عليه، كما
عرّفنا بالله وهدانا إليه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
فإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مِشكاة الوحي. فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقّاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد. فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة. وعَلِم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرَّفَ به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلةَ الغذاء أعظمَ ما كان إليه فاقة، ومنزلةَ الشفاء أشدَّ ما كان إليه حاجة. فاشتدّ بها فرحُه، وعظم بها غناه، وقويت بها معرفته، واطمأنّت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه. فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام عينَ
بصيرتِه بين رياضها وبساتينها، لِتيقّنه بأنّ شرفَ العلم تابعٌ لِشرفِ معلومِه، ولا معلومَ أعظمُ وأجلُّ ممّن هذه صفتُه، وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ وأنَّ شرَفه أيضًا بحسب الحاجة

الصفحة 8