كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

فِي قَوْلِهِ: كُلُّ كَلَامٍ مَأْخُوذٌ مِنْهُ وَمَتْرُوكٌ إلَّا كَلَامُ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ.
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ إلَى هَذَا الْعَالِمِ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ لِلْأَخِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ وَنَقَلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقُمْ لِأَبِيهِ، وَلَا لِأُمِّهِ وَإِنَّمَا قَامَ لِأَخِيهِ وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ وَاحِدٌ، وَقَدْ قَدَّمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ قَوْلَهُ الَّذِي يَخْتَارُ الْقِيَامَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِخْوَةَ، ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْوَالِدَيْنِ وَأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ وَأَقْوَمُ طَرِيقٍ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِعُذْرٍ كَانَ هُنَاكَ مَوْجُودًا مِنْ غَيْرٍ قَصْدٍ لِلْقِيَامِ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامِهِمَا وَقَرَنَ رِضَاهُمَا بِرِضَاهُ وَسَخَطَهُمَا بِسَخَطِهِ. وَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» فَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ لَهُمَا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَتْرُكَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أَوْجَبَ بِرَّهُمَا مَعَ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقِيَامُ لِأَخِيهِ وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْجَوَازِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَخِيهِ قَدْ تَبَيَّنَ، وَاتَّضَحَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقِيَامُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ «لَمَّا أَقْبَلَ أَبُوهُ بَسَطَ لَهُ طَرَفَ رِدَائِهِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ بَسَطَ لَهَا طَرَفَ رِدَائِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ أَخُوهُ قَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى أَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» فَدَلَّ أَنَّ قِيَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ لَهُمَا مَعًا، إمَّا أَنْ يُوَسِّعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ يُوَسِّعَ لَهُ فِي الرِّدَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ رِدَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ رِدَاؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا نُقِلَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا فَمِنْ أَيْنَ يَسْعَ عَلَى هَذَا أَرْبَعَةً فَضَاقَ

الصفحة 175