كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

يَأْتِي هَذَا الْعَالِمُ بَعْدَ إنْكَارِهِ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا ذَكَرَ يَشْرَعُ النَّدْبَ فِي الْقِيَامِ بِفِعْلِ آحَادِ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَعَلَّهَا لِأَعْذَارٍ وَقَعَتْ لَهُمْ إذْ ذَاكَ كَامِنَةٍ عِنْدَهُمْ بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ مَوْجُودَةٌ كَمَا أَبْدَيْنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْهَضُ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ:
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ، وَلَا مُعَارِضٍ.
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَكْثَرِهِمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى آيَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ، بَلْ وَقَعَ لِلْآحَادِ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ هَذَا الْقَائِلُ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِعَمَلِ آحَادٍ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا وَقَعَ النَّكِيرُ عَلَى مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَوْنِهِ يَتَشَرَّعُ بِعَمَلِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَشْرِيعٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمَنْدُوبِ، وَبَابُ الْمَنْدُوبِ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا أَوْ سَلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْقَفَّاصِ قَالَ: النُّبَلَاءُ مِنْ الرِّجَالِ وَالْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ قِيَامَ الرَّجُلِ لَهُمْ لِكَرَاهَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُومَ لِلنَّاسِ انْتَهَى، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُبَاحٌ

الصفحة 180