كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

لَمَّا أَنْ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْسُوسًا ظَاهِرًا بَيِّنًا فِي عَوَائِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمُعَامَلَتِهِ الْجَمِيلَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِالْأَمْرِ بِتَوْقِيرِهِ فَكَيْفَ يَنْهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هَذَا أَمْرٌ لَا يُتَعَقَّلُ وَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ اسْتَمَرَّتْ فَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا لِمُرُورِهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغَفْلَةِ فَوَقَعَ مَا وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ لِلسُّنَّةِ فَبَعِيدَةٌ عَنْ مَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ مِنْهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ «مَنْ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، فَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْ الْجَمِيعِ، إذْ لَوْلَا الْعَفْوُ مَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ قَدْ عَلِمَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوَاضِعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِنْزَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّوْقِيرِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالْغَفَلَاتِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُفَضِّلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «آدَم فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُسَاوَاةِ وَعَدَمِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ لَهُ بِالْأَمْرِ، وَأَحَادِيثُ التَّفْضِيلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ لَهُ بِذَلِكَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِالتَّفْضِيلِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيصٍ يَلْحَقُ الْمَفْضُولَ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ بَلْ مَسْأَلَتُنَا آكَدُ وَأَوْلَى. لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ يُتْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ مَنَعَهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُتَنَاقِضٌ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ

الصفحة 186