كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَغْشَانَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَجَاءَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الْقَائِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ عَلَى السُّرَرِ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا أَمْرٌ حَدَثَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي قَاعِدٌ عَلَى السَّرِيرِ فَوَسَّعَ لَهُ فِي السَّرِيرِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةُ» فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَسَّعَ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ بِرًّا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَرْفِيعًا وَتَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ انْتَهَى فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ مَا أَعْجَبَهُ.
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ مَا هَذَا لَفْظُهُ: قِيلَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالرَّجُلُ يَقُومُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفَضْلُ فَيُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهِ قَالَ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسِّعَ لَهُ قِيلَ لَهُ: فَالْمَرْأَةُ تُبَالِغُ فِي بِرِّ زَوْجِهَا فَتَلْقَاهُ فَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ قَالَ: أَمَّا تَلَقِّيهَا وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا قِيَامُهَا حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ رُبَّمَا يَكُونُ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، فَإِذَا طَلَعَ قَامُوا إلَيْهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ: إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ أَوَّلَ مَا وَلِيَ حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَيْفَ يَقُولُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَعَدَالَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَقَدُّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَشْهُورَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْوَاجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا صِفَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشِدَّةِ تَوْقِيرِهِمْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهَيْبَتِهِمْ لَهُ

الصفحة 187