كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوهُ، وَلَا يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا كِدْت) انْتَهَى. هَذَا قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَاسِطُهُمْ وَيَتَوَاضَعُ لَهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوضِحُهُ مَا «وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ رُكُوعِهِ الْفَجْرَ قَالَتْ: إنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَةً قَالَ حَدِّثِينِي يَا حُمَيْرَاءُ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الصَّلَاةِ» .
وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَوْ خَرَجَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَمَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ الْخَلْعِ وَالْقُرْبِ وَالتَّدَانِي فِي مُنَاجَاتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ وَتِلَاوَتِهِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَكِلُّ اللِّسَانُ أَنْ يَصِفَ بَعْضَهَا لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَتَلَقَّاهُ.
وَلَا يُبَاشِرُهُ، وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَيَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ حَتَّى يَحْصُلُ التَّأْنِيسُ بِجِنْسِهِمْ، وَهُوَ حَدِيثُهُ مَعَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ جِنْسُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ، فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَيْهِمْ، وَأَمَّا قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَابَلَةَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْجَلِيلَةِ، وَلَا سَمَاعَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْعَذْبَةِ الْمَعْدُومَةِ فِي غَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رِفْقًا بِهِمْ وَلِكَيْ يَتَوَصَّلَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ اللَّهِ أَحْكَامَهُ {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فَهَذَا التَّوْقِيرُ وَالْمَهَابَةُ حَاصِلٌ فِيهِمْ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْهُمْ كَثِيرًا بَلْ ذَلِكَ فِي أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ وَأَكْثَرُ.
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ

الصفحة 188