كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 1)

ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ، أَوْ خَمْسَةٌ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَامّ إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَامّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ مِنْ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ، فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ» .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ» ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا حَضَرَ مَوْضِعًا، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ، إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ.
وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا، وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَكَانَ فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا، فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي

الصفحة 307