كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 3)

عَبْدًا قَدْ عَلِمْت مِنْ طَلْبَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَإِلْقَاءِ كَنَفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ أَنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنِّي، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ بِنَظَرِهَا، وَفِعَالِهَا إلَّا، وَكَّلْته إلَيْهَا أَضِفْ الْأَشْيَاءَ إلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مَنَنْت بِهَا عَلَيْك} .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ إنَّمَا تَفَاوَتُوا، وَتَبَايَنُوا فَبِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى اخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ زَادَهُمْ ذَلِكَ سُرْعَةً، وَقُرْبًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَصُنْعِهِ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِالسَّهْوِ عَنْهُ، وَاخْتِيَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى زَادَهُمْ ذَلِكَ بُطْئًا، وَبُعْدًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَصُنْعِهِ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ فَكُنْ فِي نَظَرِك إلَى رَبِّك نَاظِرًا بِأَنْ لَا تُؤَمِّلْ غَيْرَ صُنْعِهِ، وَلَا تَرْجُو غَيْرَ مَعُونَتِهِ، وَاثِقًا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ، وَأَسْرَعُ فِي مَعُونَتِهِ لَك فَإِنَّ الَّذِينَ قَلَّدُوا أُمُورَهُمْ رَبَّهُمْ، وَوَثِقُوا بِهِ، وَلَجَأُوا إلَيْهِ قَدْ أَمَاتُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلُوا الْأُمُورَ عِنْدَهُمْ أَسْبَابًا مَعَ قِيَامِهِمْ بِهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَأُولَئِكَ ذَهَبُوا بِصَفْوِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ لِسُكُونِ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَوَجَدُوا بِذَلِكَ الرَّوْحَ، وَالرَّاحَةَ فَهُمْ حُمَاةُ الدِّينِ، وَالْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ قَدْ فَاقُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ، وَسُكُونِهِمْ إلَيْهِ فَأَوْجَبَ لَهُمْ صُنْعَهُ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِ فَمَا تَقَلَّبُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ فَعَلَى الرِّضَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْخَلْقِ فِي مُؤْنَةٍ، وَتَعَبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اخْتَارُوهَا، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهَا فَأَوْرَثَتْهُمْ الْهَمَّ، وَالْغُمُومَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَلَّدُوهُ أُمُورَهُمْ، وَخَرَجُوا عَنْ طِبَاعِ الْعِبَادِ؛ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خَطَأِ مَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ فَجَعَلُوا اخْتِيَارَهُمْ الرِّضَا بِمَا صَيَّرَهُمْ إلَيْهِ مَوْلَاهُمْ مِنْ أُمُورِهِمْ فَزَالَتْ الْغُمُومُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ لَهُمْ الصُّنْعَ، وَالتَّوْفِيقَ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَأَوْرَثَهُمْ الْغِنَى، وَالْعِزَّ فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَدَّ عَنْهُمْ أَبْوَابَ الْحَاجَاتِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَأَتَتْهُمْ لَطَائِفُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقَامَ لَهُمْ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَنَزَّهَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُمْ عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا، وَطَهَارَةً لِقُلُوبِهِمْ عَنْ التَّشَاغُلِ بِمَا أَغْنَاهُمْ عَنْهُ فَحَصَّنَهُمْ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَأَمْشَاهُمْ فِي طُرُقَاتِ الدُّنْيَا طَيِّبِينَ مُوَالِينَ لَهُ فَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ أَشْهَرُ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَصْوَاتِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ، وَنُورٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، وَيَحْيَوْنَ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعَ أَبْصَارَ قُلُوبِهِمْ

الصفحة 33