كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 3)

قُلُوبَهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَلَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى جَمْعِ هُمُومِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، وَجَمْعِ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ إنْ قَامُوا عُرِفُوا بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُمْ قِيَامٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعُوا أَوْ سَجَدُوا أَوْ تَلُوا الْقُرْآنَ أَوْ دَعَوْا رَبَّهُمْ لَا تَعْزُبُ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
فِيهِ زَكَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَصُوِّبَتْ عُقُولُهُمْ فَهُوَ يَتَعَاهَدُهُمْ بِلُطْفِهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ فَقَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ، وَكَثُرَ صَوَابُهُمْ فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي مَحَبَّةِ طَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يَكُنْ لَهُ ثِقَةٌ إلَّا اللَّهَ، وَلَا غِنًى إلَّا بِهِ، وَلَا أَمَلٌ غَيْرَهُ يَرْجُوهُ، وَيَتَّخِذُهُ، وَكِيلًا فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا رَاضِيًا بِقَضَائِهِ فِيمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ رَاضِيًا بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مُتَّهِمًا رَأْيَهُ، وَلِمَا تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مُسَلِّمًا رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ غَيْرَ مُتَجَبِّرٍ، وَلَا مُتَمَلِّكٍ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ صِحَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ شِدَّةٍ مِمَّا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ، وَلْيَكُنْ قَلْبُهُ بِذَلِكَ رَاضِيًا لِمَوْضِعِ الثِّقَةِ بِرَبِّهِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ وَرِثَ قَلْبُهُ الْمَحَبَّةَ لَهُ، وَالشَّوْقَ إلَيْهِ، وَصَارَ إلَى مَنْزِلَةِ الرِّضَا بِمَا كَفَاهُ، وَحَمَاهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ قَلَّ، وَأَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ مَطَامِعَ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَغْنَى بِاَللَّهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ أَلْهَمَهُ مَوْلَاهُ عِلْمًا مِنْ عِلْمِهِ فَعَرَّفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفْهُ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَعَنْ اللَّهِ أَخَذَ عِلْمَهُ، وَبِأَمْرِ اللَّهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - تَأَدَّبَ فَطَهُرَتْ أَخْلَاقُهُ لَمَّا آثَرَ أَمْرَ اللَّهِ، وَلَجَأَ إلَيْهِ فَتَمَّتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ الْمَحْبُوبُونَ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ الْمَعْرُوفُونَ فِيهَا خَفِيٌّ أَمْرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ لِكَلَامِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ، وَلِبُكَائِهِمْ حُنَيْنٌ تَقَعْقَعُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِنْ سُرْعَةِ فَتْحِهَا إجَابَةً لِدُعَائِهِمْ فَأَعْظِمْ بِهِمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَاهًا، وَمَنْزِلَةً، وَأَعْظِمْ بِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِهِ فَهُمْ مَسْرُورُونَ بِرَبِّهِمْ قَرِيرَةٌ أَعْيُنُهُمْ طَرِبَةٌ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِهِ مُشْتَاقَةٌ سَاكِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ إلَيْهِ تَقَدَّمُوا النَّاسَ، وَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُمْ، وَأَشْرَفُوا عَلَى النَّاسِ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ فَعَجِبُوا مِنْ النَّاسِ، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُمْ انْقَطَعُوا إلَى اللَّهِ بِهُمُومِهِمْ، وَأَهْوَائِهِمْ، وَعَلِقُوا بِهِ، وَلَجَئُوا إلَى اللَّهِ لَجْأَ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ قَدْ تَخَلَّصَتْ إلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فَأَنْزَلُوا نِسْيَانَهُ

الصفحة 35