كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 3)

فِي عَمَلِهِ الْعَلَانِيَةِ نُورًا، وَصَبْرًا أَمَرَهُ بِمُخَالَفَةِ النَّاسِ لِيُؤْذَى فَلَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَأُوذِيَ، وَاحْتَمَلَ الْأَذَى أَمَرَهُ بِالْعُزْلَةِ، وَالرَّاحَةِ مِنْ النَّاسِ لِيُعْجَبَ بِمَا يَعْمَلُ، وَيَضْجَرَ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ اعْتَزَلَ، وَصَبَرَ، وَأَخْلَصَ قَالَ لَهُ: الرِّفْقُ خَيْرٌ لَك فَيَصُدُّهُ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَفْلَتَهُ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْإِخْلَاصِ خَائِفٌ، وَجِلٌ حَزِينٌ مُتَوَاضِعٌ مُنْتَظِرٌ لِلْفَرَجِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوَدُّ أَنَّهُ نَجَا كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ فَرِحٌ فَخُورٌ مُتَكَبِّرٌ مُدْلٍ بِعَمَلِهِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْرِفُ مِائَةَ بَابٍ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الصَّادِقَ الْمُخْلِصَ الْعَارِفَ الْخَائِفَ الْمُشْتَاقَ الرَّاضِيَ الْمُسَلِّمَ الْمُوَفَّقَ الْوَاثِقَ الْمُتَوَكِّلَ الْمُحِبَّ لِرَبِّهِ يُحِبُّ أَنْ لَا يُرَى شَخْصُهُ، وَلَا يُحْكَى قَوْلُهُ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ أَفْلَتَ كَفَافًا فَمَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ بَلَغَتْ بِهِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ، وَتَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ أَوْصَلَهُ إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ.
وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْخَيْرِ، وَيَنْتَشِرَ عَنْهُ، وَيُنْشَرَ ذِكْرُهُ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُزْرَى عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ بَلْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُوَطَّأُ عَقِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يُزْرِ لَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا شِدَّةُ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِحَلَاوَةِ الثَّنَاءِ، وَالْحُبِّ لِإِقَامَةِ الْمَنْزِلَةِ، وَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا عَظِيمَةٌ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ الْهَوَى يَتَلَاعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ التَّلَاعُبِ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ، وَيَفْنَى عُمْرُهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَسِيرًا لِلشَّيْطَانِ، وَعَبْدًا لِلْهَوَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْعَبْدِ مُرِيدًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُدَاوِمًا عَارِفًا بِنَفْسِهِ عَارِفًا بِهَوَاهُ مُعَانِدًا لَهُمَا حَذِرًا مُسْتَعِدًّا عَارِفًا بِفَقْرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ لَهُ: إنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَعْوَانِ عَلَيْهِ، وَالشَّيْطَانُ عَلَى الْوَاحِدِ أَقْوَى، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَجَالِسْ إخْوَانَكَ، وَذَاكِرْهُمْ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَنُوبُك فِي عَمَلِك مِنْ نَفْسِكَ، وَهَوَاكَ، وَمِنْ عَدُوِّكَ فَإِنَّهُمْ يَدُلُّونَكَ، وَيُعِينُونَك يُرِيدُ بِذَلِكَ ذَهَابَ حُزْنِ الْخَلَوَاتِ، وَإِطْفَاءَ نُورِ الْعُزْلَةِ، وَقَطْعَ سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَفَتْحَ طَرِيقِ الْفُضُولِ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِخْرَاجَهُ

الصفحة 47