كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 3)

مِنْ عَمَلِ السِّرِّ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ إطْفَاءَ مَا قَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ نُورِ فِكْرِ الْخَلَوَاتِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: أَجَلْ إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ تَعْلِيمُك النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِك فَلَوْ أَخْبَرْت النَّاسَ بِذَلِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَك لِيَعْلَمُوا مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ مَا تَعْلَمُ فَتُؤْجَرُ فِيهِمْ فَإِنْ قُلْت أَيْضًا هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك: لَوْلَا عِلْمُك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذِهِ الْآفَاتِ لِتُعْجَبَ بِنَفْسِك، وَتَنْسَى النِّعْمَةَ عَلَيْك فِي الْعَمَلِ فَتُخْمِدَ النَّفْسَ فَلَا يُجَاوِزُ عَمَلُك رَأْسَك فَاحْذَرْ هَذَا الْبَابَ فَإِنَّ فِيهِ شَهَوَاتٍ خَفِيَّةً، وَمِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ أَنْ يُخْفِي الْعَبْدُ عَمَلَهُ، وَيُحِبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ بِهِ، وَيُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلُ خَفِيَ فِي السِّرِّ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عَلَامَةِ عَطَشٍ إنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ عَلَامَةِ سَهَرٍ فِي الْوَجْهِ إنْ كَانَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ لِلَّهِ لَا لِلنَّاسِ قَالَ لَهُ: صَدَقْتَ أَخْلِصْ عَمَلَك لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ يُحَبِّبُهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ، وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَهُ فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ: وَمَا حَاجَتِي إلَى النَّاسِ قَالَ: فَأَنْتَ الْآنَ الْمُخْلِصُ الَّذِي قَدْ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِك، وَعَرَفْت مَكِيدَةَ إبْلِيسَ، وَقَدْ نَجَوْت، وَأَنْتَ مَعْصُومٌ فَإِنْ عَقَلَ الْعَبْدُ، وَقَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنَا، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلَهَا شُكْرٌ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَ، وَلَمْ يُعْجَبْ بِعَمَلِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ إلَى نَفْسِهِ نِعْمَةً هِيَ مِنْ اللَّهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ الشُّكْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ: الْآنَ نَجَوْت حِينَ اعْتَرَفْت لِلَّهِ بِذَلِكَ، وَقُمْت بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَتَوَاضَعْت لِرَبِّك، وَبَرَّأْت نَفْسَك مِنْ الْعَمَلِ، وَنَسَبْته إلَى الَّذِي هُوَ مِنْهُ فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ هَلَكْت، وَلَكِنْ قُلْ أَنَا أَرْجُو، وَأَخَافُ، وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ النَّجَاةِ شَيْءٌ، وَلَسْت أَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لِي عَمَلِي.
وَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ، وَالتَّزَيُّنَ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَيَّنَ الرَّجُلُ بِالرِّقَاعِ، وَالْخِرَقِ، وَالشُّعْثِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّزَيُّنَ فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ نَزَلْت بِمَحَلَّةِ خُشُوعِ النِّفَاقِ، وَإِنْ عَرَفْت نَفْسَك

الصفحة 48