كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 4)

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْخِيَاطَةُ خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشِينُهَا أَوْ يَذْهَبُ بِثَوَابِهَا أَوْ يُنْقِصُهَا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ فِي صَنْعَتِهِ جَهْدَهُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الثَّوَابِ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ كَمَا أَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ إذْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْصَحْ فِيهَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَيَاعٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ.
وَمَفَاسِدُهَا عَدِيدَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا كَلَّفَ الصَّانِعَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنْ يَخِيطَ بِالْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتِلَهُ فَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْطَ إذَا لَمْ يُفْتَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ تُقِيمُ الْخِيَاطَةَ مَعَهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُلَّ وَيُوَسِّعَ بَيْنَ الْغُرْزَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ أَوْ يُكْرَهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَخِيطُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِأُجْرَتِهِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَ حَرِيرٍ لِلرِّجَالِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ سَابِلًا لِأَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَكُونَ فِي الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ وُسْعٌ خَارِقٌ يَصِلُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالثَّوْبُ الْوَاسِعُ وَالسَّابِلُ فِي حَقِّهِنَّ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَفْصِيلِهِ ثِيَابَ النِّسَاءِ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ لُبْسِ الضَّيِّقِ وَالْقَصِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِي ثِيَابِ الرِّجَالِ أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً دُونَ وُسْعٍ خَارِقٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، قَالَ لَهُ بِلَالٌ: مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ؟

الصفحة 19