كتاب المدخل لابن الحاج (اسم الجزء: 4)

فَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّتِي ضَمِنَ فِيهَا عَدَمَ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي إذَا رَآهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِفَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَالْجَنَابُ الْكَرِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ فَمَا بَالُك بِسَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ الْعِصْمَةُ فِيهِ لِلرَّائِي. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ ضَمِنَتْ الْعِصْمَةَ فِيهَا لِلرَّائِي فَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَمَاعُ الْكَلَامِ. فَالْجَوَابُ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ فَجَاءَ النَّصُّ فِي عِصْمَتِهِ إذَا رَأَى الرَّائِي صُورَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَنَامِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي.
وَمِنْ الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» قَالَ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفَ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» أَنَّهُ رَأَى الْحَقَّ وَأَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَعَضَّدَ مَا قَالَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الطُّرُقِ «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَنَامِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا. وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْنَا كَمَا لَوْ رَآهُ شَيْخًا أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ لَوْنِهِ أَوْ يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَهُ فِي مَكَانِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَقْلَ يُحِيلُهُ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا الِاعْتِلَالُ

الصفحة 289