كتاب التبيان في أيمان القرآن - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 1)

الذي مناطُهُ: القدرةُ والعلمُ، فنبَّه على ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)}، وبقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)} فيُحْصِي عليه ما عَمِلَ من خيرٍ وشرٍّ، ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه؟
ثُمَّ أنكر - سبحانه - على الإنسان قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)}، وهو الكثير الذي يُلَبَّدُ بعضُه فوق بعضٍ، فافْتَخَر هذا الإنسان بإهلاكه وهو: إنفاقُهُ في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجُوهِهِ التي أُمِرَ بإنفاقه فيها، وَوَضْعِهِ مواضعه؛ لم يكن ذلك إهلاكًا له، بل تقرُّبًا به إلى الله - عزَّ وجلَّ - وتوصُّلًا به إلى رِضَاهُ وثوابِهِ، وذلك ليس بإهلاكٍ له. فأنكر - سبحانه - افتخارَه وتبجُّحَهُ بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقُه فيها إهلاكٌ له.
ثُمَّ وبَّخَهُ - سبحانه - بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)}، وأتى ها هنا بـ "لم" الدالَّة على المُضِيِّ (¬١)، في مقابلة قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)}؛ فإنَّ ذلك في الماضي، أَفَيَحْسَبُ أن لم يَرَهُ أحدٌ فيما أنفقه وفيما أهلكه؟!
ثُمَّ ذكر - سبحانه - برهانًا مقرِّرًا أنَّه أحقُّ بالرؤية وأَوْلَى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما، فكيف يعطيه البصر من لا يراه؟ وكيف يعطيه آلة البيان - من الشفتين واللِّسَان، فينطقُ، ويبين عمَّا في نفسه، ويأمر وينهى - من لا يتكلَّم، ولا يُكَلِّمُ، ولا يخاطِب، ولا يأمر، ولا ينهى؟! وهل كمال المخلوق مستفادٌ إلا من خالقه؟ ومن جعل غيره عالمًا بنجْدَيْ الخيرِ والشرِّ - وهما طريقاهما - أَوْلَى وأحقُّ بالعلم منه.
---------------
(¬١) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: المعنى.

الصفحة 61