كتاب حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 1)

والثاني أن هذا التنجيس لا يعم كل ماء بل يختص ببعض المياه دون بعض
والثالث أنه إذا تعين التقدير كان تقديره بالقلتين هو المتعين
فأما المقام الأول فنقول ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والولوغ وغمس اليد فيه
أما النهي عن البول فيه فليس فيه دلالة على أن الماء كله ينجس بمجرد ملاقاة البول لبعضه بل قد يكون ذلك لأن البول سبب لتنجيسه فإن الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدتها ولو كانت قلالا عظيمة
فلا يجوز أن يخص نهيه بما دون القلتين فيجوز للناس أن يبولوا في القلتين فصاعدا وحاشى للرسول الله أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين ويكون قد جوز للناس البول في كل ماء بلغ القلتين أو زاد عليهما وهل هذا إلا إلغاز في الخطاب أن يقول لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ومراده من هذا اللفظ العام أربعمائة رطل بالعراقي أو خمسمائة مع ما يتضمنه التجويز من الفساد العام وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم وكذلك حمله على ما لا يمكن نزحه أو ما لا يتحرك أحد طرفيه بحركة طرفه الآخر وكل هذا خلاف
مدلول الحديث وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة
فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه وإن كان مجرد البول لا ينجسها سدا للذريعة
فإنه إذا مكن الناس من البول في هذه المياه وإن كانت كبيرة عظيمة لم تلبث أن تتغير وتفسد على الناس كما رأينا من تغير الأنهار الجارية بكثرة الأبوال
وهذا كما نهى عن إفساد ظلالهم عليهم بالتخلي فيها وإفساد طرقاتهم بذلك
فالتعليم بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه ومقصوده وحكمته بنهيه ومراعاته مصالح العباد وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه من مواردهم وطرقاتهم وظلالهم كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجن من طعامهم وعلف دوابهم
فهذه علة معقولة تشهد لها العقول والفطر ويدل عليها تصرف الشرع في موارده ومصادره ويقبلها كل عقل سليم ويشهد لها بالصحة
وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي أو بما يتحرك أو لا يتحرك أو بعشرين ذراعا مكسرة أو بما لا يمكن نزحه فأقوال كل منها بكل معارض وكل بكل مناقض لا يشم منها رائحة الحكمة ولا يشام منها بوارق المصلحة ولا تعطل بها المفسدة المخوفة
فإن الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من

الصفحة 116