كتاب حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 1)

الأولى
ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم
ودع الظاهرية البحتة فإنهما تقسي القلوب وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها وما أودعته من الحكم والمصالح والعدل والرحمة
وهذه الطريق التي جاءتك عفوا تنظر إليها نظر متكىء على أريكته قد تقطعت في مفاوزها أعناق المطي لا يسلكها في العالم إلا الفرد بعد الفرد ولا يعرف مقدارها من أفرحت قلبه الأقوال المختلفة والاحتمالات المتعددة والتقديرات المستبعدة
فإن علت همته جعل مذهبه عرضة للأحاديث النبوية وخدمه بها وجعله أصلا محكما يرد إليه متشابهها فما وافقه منها قبله وما خالفه تكلف له وجوها بالرد غير الجميل فما أتعبه من شقي وما أقل فائدته ومما يفسد قول المحددين بقلتين أن النبي نهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول
هكذا لفظ الصحيحين لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعد ما بال فيه
وهذا خلاف صريح للحديث فإن منعتم الغسل فيه نقضتم أصلكم وإن جوزتموه خالفتم الحديث
فإن جوزتم البول والغسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعا
ولا يقال فهذا بعينه وارد عليكم لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغير جوزتم له الغسل فيه لأنا لم نعلل النهي بالتنجيس وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس كما تقدم فلا يرد علينا هذا
وأما إذا كان الماء كثيرا فبال في ناحية ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يصل إليها البول فلا يدخل في الحديث لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر أن لا يغتسل فيه أبدا وهو فاسد
وأيضا فالنبي نهى عن الغسل فيه بعد البول لما يفضي إليه من إصابة البول له
قلت ونظير هذا نهيه أن يبول الرجل في مستحمه
وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول فيقع في الوسواس كما في الحديث فإن عامة الوسواس منه حتى لو كان المكان مبلطا لا يستقر فيه البول بل يذهب مع الماء لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء

الصفحة 118