كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود (ط. المكبتة السلفية) (اسم الجزء: 1)
قُلْت : قَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْغُسْل وَالْوُضُوء هَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَوْ سُنَّتَانِ . قَالَ التِّرْمِذِيّ : اِخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِيمَنْ تَرَكَ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ، فَقَالَ طَائِفَة مِنْهُمْ : إِذَا تَرَكَهُمَا فِي الْوُضُوء حَتَّى صَلَّى أَعَادَ ، وَرَأَوْا ذَلِكَ فِي الْوُضُوء وَالْجَنَابَة سَوَاء ، وَبِهِ يَقُول اِبْن أَبِي لَيْلَى وَعَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق . وَقَالَ أَحْمَد : الِاسْتِنْشَاق أَوْكَد مِنْ الْمَضْمَضَة ، وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم يُعِيد فِي الْجَنَابَة وَلَا يُعِيد فِي الْوُضُوء ، وَهُوَ قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَبَعْض أَهْل الْكُوفَة ، وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يُعِيد فِي الْوُضُوء وَلَا فِي الْجَنَابَة لِأَنَّهُمَا سُنَّة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَجِب الْإِعَادَة مِنْ تَرْكهمَا فِي الْوُضُوء وَلَا فِي الْجَنَابَة ، وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ . اِنْتَهَى . قُلْت : إِنَّ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْوُضُوء لَا يَشُكّ شَاكّ فِي وُجُوبهمَا ، لِأَنَّ أَدِلَّة الْوُجُوب قَدْ تَكَاثَرَتْ . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا تَوَضَّأْت فَمَضْمِضْ " وَقَالَ عَمْرو بْن عَبْسَة يَا نَبِيّ اللَّه حَدِّثْنِي عَنْ الْوُضُوء فَأَعْلَمَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ فِي تَعْلِيمه لَهُ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا لَا يَكُون مُتَوَضِّئًا ، وَلَمْ يَحْكِ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُمَا قَطّ وَلَوْ بِمَرَّةٍ ، بَلْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة الَّتِي تَبْلُغ دَرَجَة التَّوَاتُر مُوَاظَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا ، فَأَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُوَاظَبَة عَلَيْهِمَا يَدُلّ بِدَلَالَةٍ وَاضِحَة عَلَى وُجُوبهمَا . وَأَمَّا وُجُوبهمَا فِي الْغُسْل فَهُوَ أَيْضًا ثَابِت بِحَدِيثِ أَبِي ذَرّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الصَّعِيد الطَّيِّب طَهُور وَإِنْ لَمْ تَجِد الْمَاء إِلَى عَشْر سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاء فَأَمِسَّهُ جِلْدك أَوْ قَالَ بَشَرَتك " قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن صَحِيح وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِم . فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمِسَّهُ بَشَرَتك " وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْر وَظَاهِره الْوُجُوب وَمَوْضِع الْمَضْمَضَة هُوَ الْفَم وَاللِّسَان وَمَوْضِع الِاسْتِنْشَاق كِلَاهُمَا مِنْ ظَاهِر الْجِلْد فَيَجِب إِيصَال الْمَاء إِلَيْهِمَا وَبَيَّنَتْهُ الرِّوَايَات الْأُخْرَى أَنَّهُ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاق وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .@
الصفحة 415